مسلمو فرنسا بين زِمّور وزغيدور - داليا سعودي - بوابة الشروق
الأحد 28 أبريل 2024 3:36 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مسلمو فرنسا بين زِمّور وزغيدور

نشر فى : الثلاثاء 30 ديسمبر 2014 - 9:00 ص | آخر تحديث : الثلاثاء 30 ديسمبر 2014 - 9:00 ص

تصدت موجة من الرفضِ القاطع لتصريحات الصحفى الفرنسى إريك زِمـّور الداعى مؤخرا لترحيل الخمسة ملايين مسلم المتواجدين بفرنسا. فبالنسبة لصاحب «الانتحار الفرنسى»، وهو الكتاب الأكثر مبيعا فى فرنسا هذا العام، بات المهاجرون المسلمون فى بلاده أشبه بـ«شعب داخل الشعب»، وهو ما يراه برهان «الفوضى الحالية»، ونذير «الحرب الأهلية الآتية». والحل بحسبه هو التهجير. يلمح إليه فى حوار صحفى، مشبها إياه بتهجير أكثر من مليون مستوطن فرنسى من الجزائر بعد الاستقلال عام 1962. هكذا إذن، أرادها المسيو زمـّور، العين بالعين، والسن بالسن، والهجرات قصاص!

لا يختلف إريك زِمـّور عن كثير من إعلاميينا العرب النافخين فى مزامير الكراهية والتعصب، العازفين بمهارة على أوتار الخوف من الآخر. فالصحفى النابه، الذى منحته الإذاعة جائزةَ «أكبر جعجاع لعام 2014»، يمتلك بضاعة رائجة هذه الأيام، يطوف بها ليل نهار على الدكاكين الإعلامية، بضاعة مزجاة ترسم العالم بالأبيض والأسود، وتقسم المجتمع إلى نحن وهم، وتقتات فى مواجهة المهاجرين المسلمين على العداوة والجهل وحيل الاستيهام الشعبوية الرخيصة، بضاعة تحول الساحة إلى عراك بين هويات متقاتلة، يخرج بها علينا بابتسامة لزجة أشباه المسيو زِمـّور المندفعين من كل صنبور.

•••

لكن سرعان ما يتهاوى هذا الخطاب التحريضى العنصرى إذا ما استرجعنا حقائق التاريخ. ففى محاضرة ألقاها مؤخرا بالرياض الصحفى الفرنسى سليمان زغيدور، تحدث الباحث المتخصص فى جيوسياسة الأديان عن عراقة العلاقات الفرنسية بالإسلام منذ تبادل شارلمان وهارون الرشيد الهدايا والسفراء وإلى عصرنا الحديث، مذكَّرا بأن المجندين الجزائريين قد حاربوا بالآلاف تحت لواء الجيش الفرنسى منذ احتلال الجزائر عام 1830، وبأنهم شاركوا فى حرب فرنسا فى القرم عام 1854، وفى حملتها على المكسيك عام 1861، وفى حربها على بروسيا عام 1870. أما فى الحرب العالمية الأولى، فقد كانوا أكثر من 130 ألف مقاتل مغاربى مسلم فى الصفوف الأولى من الجيش الفرنسى، لا فى ساحات القتال الأوروبية فحسب، وإنما أيضا فى فلسطين وسوريا ولبنان، حتى أن خصوم الجيش الفرنسى كانوا يتفاجئون بتعالى التكبيرات من صفوفه كلما أحرز مقاتلوه البواسل النصر. وفى الحرب العالمية الثانية، دفع أكثر من 25 ألف مجند جزائرى حياته لتحرير الجمهورية الفرنسية. وكان بن بِلّا نفسه من بين الضباط الذين تم تكريمهم بعد النصر. بل إن غالبية ضباط جبهة التحرير الوطنية المنخرطين فى حرب الجزائر كانوا من قدامى المحاربين فى الجيش الفرنسى، الذى ظل يرفع بين شعارات ألويته شعارين إسلاميين، أحدهما يحمل صورة القرآن الكريم وفوقها عبارة «الله أكبر»، وثانيهما يحمل صورة العلم الفرنسى وقد كتبت تحته بالحروف العربية عبارة «الله معنا ومع العلم والوطن الفرنسى»!

كان ذلك حتى عام 1962، عام التحرير، الذى لم يأتِ بالقطيعة بين فرنسا والجزائر بقدر ما أتى، وفق تشبيه زغيدور وكلماته، بحالة أشبه ما تكون بأبغض الحلال: طلاق صاخب أليم فرَّق بين زوجين بعد أن رزقا عبر سنوات العِشرة الطويلة بأبناء كثر وحفدة لا حصر لهم، ما زال بعضهم يعتقد ذهنيا وثقافيا ولغويا أن البحر المتوسط لايزال يتوسط فرنسا العظمى بمثل ما يتوسط نهر السين باريس.

•••

واليوم لا يروق للمسيو إريك زِمـّور أن يعيش أحفاد هؤلاء المقاتلين البواسل فى فرنسا، لأنهم بحسب قوله لا يعيشون «على الطريقة الفرنسية»، ولأن وجودهم لا يتناغم مع الصورة الرومانسية التى رسمها لبلاده فى مخيلته. لكنه يجهل أن الخطاب العنصرى الداعى ضمنا لإلقاء المهاجرين العرب فى البحر، هو أحد أهم أسباب انخراط الشباب الأوروبى اليائس فى صفوف الجهاديين فى سوريا وفى العراق، بحسب التقارير التى تؤكد العلاقة الطردية بين فشل عمليات إدماج الشباب الغاضب وبين ارتمائه فى أحضان الإرهاب الدولى الآثم. لكن لذلك حديث آخر.

•••

بحسبنا اليوم أن نحَيى جمعيات مناهضة للعنصرية احتشدت، ووزير داخلية أدان، وإذاعة أوقفت برنامج المتعدى، ومبادرة الرئيس فرانسوا أولاند الذى صرح وهو يفتتح متحف «المهاجرين»، فى نفس اليوم الذى ثارت فيه زوبعة زمـّور، بأن مهاجرى الجمهورية هم سبب رئيس من أسباب ثرائها منذ القدم، داعيا لنبذ خطاب التمييز والكراهية. فحتى وإن كانت المبادرة للاستهلاك الانتخابى، فهى تجسد روح «فرنسا التنوع»، التى دعا إليها كبار فلاسفتها من أمثال فرنان بروديل، وحتى أمين معلوف، سفير الشرق على مقاعد الأكاديمية الفرنسية العريقة.

داليا سعودي كاتبة وأكاديمية مصرية حاصلة على جائزة الصحافة العربية
التعليقات