كُـوب كـاكـاو - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 3:43 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

كُـوب كـاكـاو

نشر فى : الجمعة 31 يناير 2020 - 9:20 م | آخر تحديث : الجمعة 31 يناير 2020 - 9:20 م

سأل الزبون الشابةَ الصغيرةَ التي حملت على كفَّيها صينيةً كبيرة، مُمتلئةً بالأكواب؛ أن تُحضرَ له واحد كاكاو. وقفت الشابةُ مكانها وقد بدت فارغةَ الصبر، وجعلت تُصحّح للزبون طلَبَه، فيما تجتهد لتُضفيَ على صوتِها لكنةً مُتموّجة: هوت شوكليت؟ لم يرُدّ الزبون فورًا. وَشت تعبيراتُ وجهِه بأنه قد تفاجأ بالموقف الذي لم يصادِفه قبلًا؛ لكنه لم يلبث أن استدركَ صمتَه المُريب بعد لحظة، دافعًا عن نفسِه صفة الجَّهلِ، نافيًا الشكوكَ التي طلَّت مِن عينيّ الشابةِ وكادت تهزُّ مكانتَه أمام الآخرين: أيوه تمام.
***
لم يكُن أمرًا عجيبًا أن يطلبَ أحدُ الجالسين كوبًا مِن الكاكاو؛ فالمكان عاديٌّ بسيط والطلبُ دارجٌ مُتكرّر، لكن ثمَّة ما تبدَّل؛ وجعلَ مِن الكاكاو كلِمَةً قديمةً، مُتواضعة، لا تنُم عن مُستوى رفيع، ولا تخدم مَظهرية طبقةٍ حَلَّت حديثًا مَحَلَّ أخرى؛ فاكتسحت المقاعدَ والأركانَ، واستبعدت ما دَلَّ مِن حولها على رِقَّة الحال. صار تعبيرُ "الهوت شوكليت" أكثر مُلائَمَةً وأناقة، وازداد الطلبُ عليه بما يملِك مِن رنين مُحبَّب في الآذان.
***
لم يستلزم الأمرُ أخذًا ورد؛ فقد تحول كُوبُ الكاكاو إلى الهوت شوكليت دون مقاومة تُذكَر، وارتفع ثمنُه بمُناسبةِ الترقّي. نال علاوةً تَليق، وتُمهّد له مُنافسة سلاسل المقاهي الشهيرة في قوائم أسعارها مُستقبلًا، أما النادلةُ الشابة فقد استمرَّت تؤدي دورَها على أكملِ وجه، فتُراجِع قدامى الزبائن مُصحّحةً لهم ما يطلبون، إلى أن استقر المُسمَّى الجديد وفَرَضَ نفسَه.
***
التغاضي عن المُسميات مُمكِن في بعض الأحوال؛ إنما يلزمه مُبررٌ، وما يستوقف الانتباه أن كوبَ الهوت شوكليت المَزعوم لم يكن يحمل أي فارقٍ ولو بسيط عن كوب الكاكاو. ليس له بالطبع قوامُ الشوكولاتة الغليظ الذي تتفنَّن فيه مطابخٌ بعينها، لونه مثل لَون الكاكاو، ومذاقه هو مَذاق الكاكاو بلا زيادة أو نقصان. لم يكُن من اختلاف على الإطلاق؛ تغير الاسمُ فيما المُحتوى واحد.
***
اعتدت ارتياد المكان، لكن زياراتي تباعدت مع ما اكتنفه مِن تغيرات. استبدلت آخر به، ووطَّنت نفسي عليه، وبعد قليل وصل الداءُ وانتشر؛ وراح "الهوت شوكليت" يغزو الَمَناضِدَ ويطرد الكاكاو. لم يقِف الأمرُ عند مُطاردةٍ بَريئةٍ بين قديمٍ وحديث، فقد تراجعت جَودةُ المَشروباتِ الأُخرى بوجهٍ عام، ثم تناقص حجمُها شيئًا فشيء، واكتسبت أسماءً جديدةً أكثرَ بريقًا. فَقَدَ السحلبُ جُزءًا مِن وزنِه، وخَفَّت العصائرُ الطبيعيةُ وقاربت في كثافتِها المياه، كما دخلت عليها نكهاتٌ غريبة، ثم أضيفت إليها أنواعٌ غير تقليدية، وصارت كلُّها مثائل.
***
تاهَت عن فنجانُ القهوة هُويَّته الأصيلة؛ بُنٌ نيء يرقُد مُستسلمًا في القاع، وسطحٌ رقيقٌ تُبعثِر نفخةٌ هادئةٌ خفيفةٌ حبيباتِه وتُلصِقُها بالحوافّ، ومَذاقٌ لا علاقة له بما تختزنُ الذاكرةُ؛ لا مِن سنوات، بل مِن فترة قَصيرةٍ مَاضية. يشكو الزبائنُ القِدامُ ويَعترضون، فيما النادلةُ تروح بالفناجين والأكوابِ الصغيرة وتجيء، تحاول إصلاح ما فسد؛ لكنَّ هيهات. أغلبُ المُستاءين يعرفون السِرَّ، ويتبادلون الامتعاضَ، ويأسون للحال؛ كُلُّ شيءٍ انقلبت حالُه وغلا ثمنُه؛ فلماذا سيبقى الكاكاو على وضعِه، ولماذا تظلُّ كميةُ البُنّ ثابتةً في كُلّ فنجان؟
***
يقول بعضُ الأصدقاءِ مِن الآكلين على الأرصفةِ، الشاربين على مقاهيها، الواقفين أمام عرباتها الأصيلة؛ إن تغيُّرات مُوازية تحدث بين يوم وليلة، لا تخضع لضوابط كما هي العادة، ولا يسبقها إنذار. فَقَدَ طبقُ الطعمية في بعضِ المطاعم قُرصًا مِن ثلاثة، وتضاءلَ حجمُ رغيفَ العيش ورَقَّ حتى كاد يقتصر على طبقةٍ واحدة، كما انكمشت مساحاتُ الفول في السندوتشات، وتقلَّص عددُ أصابع البطاطس، وضمر في طبقِه الباذنجان، وعلى المنوالِ ذاته تأثَّرت المَشروباتُ، وإن لم تحدُث في مُسمياتها حتى الآن تغيراتٌ كُبرى.
***
على كلّ حال، أشياءٌ كثيرةٌ تكتسب في الآونة الأخيرة أسماءً جديدةً؛ أغلبها برَّاق. أحيانًا ما يهدف الإحلالُ إلى جذبِ زبائن ذوي خصائص طبقيةٍ مُحدَّدة، وبعضُ الأحيان يكون لصرفِ انتباه الناسِ عن جوهرِ ما يجري على الأرض، ولا عَجَبَ في هذا السياق أن يُطلَقَ على تشويه الأحياءِ مًصطَلَح "تطوير"، وأن يتحولَ ارتفاعُ الدَينِ الخارجيّ إلى "إنجاز"، ويُصبح تفريغُ القضيةِ الفلسطينيةِ من مَضمُونها "خطة سلام".
***
عن نَفسي؛ لا زلت أتمسَّك بالكاكاو، ولا أطلُب غيرَه؛ والمُدهِش أن إصراري على تحديد المُسمَّى وربطِه بما يحمل الكوبُ فعليًا، جعل نادلًا مُتقدّمَ في العمر يهمس مُنحنيًا ناحيتي: هو في الحقيقة كاكاو.. كاكاو.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات