البعد الحضارى للتغير المناخى - بشير عبد الفتاح - بوابة الشروق
الثلاثاء 23 أبريل 2024 10:59 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

البعد الحضارى للتغير المناخى

نشر فى : الإثنين 31 أكتوبر 2022 - 7:10 م | آخر تحديث : الإثنين 31 أكتوبر 2022 - 7:10 م

سنة كونية هى الدورات الطبيعية للتغيرات المناخية. بيد أن الكوارث البيئية والمناخية التى تعصف بكوكبنا هذه الأيام. على شاكلة، الارتفاع المخيف فى درجات الحرارة، والاشتعال المتكرر لحرائق الغابات الهائلة، وهطول الأمطار الغزيرة، واندلاع الفيضانات المدمرة؛ تعود بالذاكرة الإنسانية إلى مُلمات غابر الأزمان. حيث الأطوار المناخية المأساوية، والأنظمة البيئية المضطربة. فبحسب تقرير علمى نشره «المنتدى الاقتصادى العالمى»، أخيرا، تسببت موجات عاتية من التغيرات المناخية القاسية، على مدى الدهر، فى انهيار حضارات عريقة، وتفكيك ممالك عتيدة.
قبل أربعة آلاف عام مضت، حكمت «الإمبراطورية الأكدية»، بقاعا مترامية فى بلاد ما بين النهرين. لكن الجفاف، الذى دهمها ثلاثة قرون متوالية، لم يدع لها منجاة. فمع لجوء السكان إلى الغابات، بعد مغادرتهم المناطق المنكوبة، تضاعفت الضغوط على الموارد المتآكلة، ما أدى إلى استفحال الأزمات. إذ دخلت الامبراطورية فى غياهب الصراعات الممتدة، والهجرات الجماعية، التى عجلت بانهيارها. بدوره، أرجع فريق بحثى بجامعة «أوكايدو» اليابانية، تلك المأساة، إلى الشتاء الطويل، الجاف، والموحش، علاوة على الندرة القاتلة فى المياه، مع ارتفاع معدلات هبوب رياح الشمال الباردة، المصحوبة بعواصف ترابية. وهو ما قوض النشاطين الزراعى والرعوى.
توصلت دراسة حديثة، نشرتها دورية «بلوس وان»، إلى أن التغيرات المناخية العاصفة، كانت سببا «غير معلن» لدفع «زنوبيا»، ملكة تدمر، وزوجها «أوديناثوس»، نحو الاصطدام بالإمبراطورية الرومانية، وتدمير مملكتهما عام 272م، وتأبين ازدهار، استمر عقودا، قرب دمشق. فقد ارتبك الأمن الغذائى للمملكة، مع تدهور المناخ، وتفاقم عدد السكان، واشتداد وطأة الحصار الرومانى. حيث أفضت موجات الجفاف والسخونة طويلة الأمد، إلى انخفاض تدريجى فى حصيلة الإنتاج الزراعى. وبين ثنايا مساعيها الحثيثة لتوفير مصادر وأسباب بديلة للحياة، تأججت نزعات توسعية لدى المملكة التدمرية، لم تكن قادرة على تحمل تبعاتها، ما عجل بسقوطها.
كانت إمبراطورية «الخمير»، فى جنوب شرق آسيا، مملكة مزدهرة ما بين عامى 802 و1431 م. لكنها توارت نتيجة الجفاف، الذى تخللته أمطار موسمية عنيفة. ولم يستبعد العلماء أن يكون «الفايكنغ»، سكان جرينلاند، بأقصى شمال المحيط الأطلسى، قد تأثروا بتغير المناخ. فلقد تعثرت حياة خمسة آلاف إنسان استوطنوا الجزيرة لنحو 500 عام، جراء الكوارث الطبيعية؛ بعدما انخفضت درجات الحرارة، حتى تدهورت الزراعة، وتقلص الرعى. ورغم محاولتهم تغيير أنماطهم الغذائية، عبر التركيز على البحر كمصدر للغذاء، غدت الحياة فى جرينلاند مستحيلة؛ فهجرها قاطنوها.
يذهب باحثون أمريكيون، إلى أن التغيرات المناخية، لم تكن بريئة من انهيار الامبراطورية العثمانية. فعلى مدى القرنين الرابع عشر والخامس عشر، كان الأناضول درة التاج الإمبراطورى. إذ ساعدت مزارعه ومراعيه على ضمان الأمن الغذائى لسكان الريف والعاصمة إسطنبول. غير أن هجوم العصر الجليدى أواخر القرن السادس عشر، ألقى بالأناضول فى غياهب أعنف موجات البرودة، والجفاف، والصقيع، والفيضانات. بموازاة ذلك، عمدت السياسات السلطوية إلى مصادرة الحبوب واللحوم، لتمويل حروب مكلفة فى المجر. وبينما كان الطقس القاسى يعيق جهود الدولة لتوزيع الإمدادات الغذائية المحدودة، انتقلت المجاعة من الريف إلى إسطنبول، مصحوبة بتفشى وباء الطاعون، حتى قضى كثيرون نحبهم. وهو ما حمل الناس على هجران المزارع والقرى بالأناضول بحثا عن مناطق أكثر استقرارا.
لقرون ممتدة، ظلت الزراعة عماد حضارة شعب هنود المايا، الذين استوطنوا أمريكا الوسطى، خلال الفترة من عام 300 إلى عام 1000 م. فخلال الفترة الرطبة انتعشت الزراعة، وتنامى عدد السكان، وتم تشييد المراكز الحضارية. وفيها، تعززت سلطة الملوك، الذين نسبوا لأنفسهم الفضل فى هطول الأمطار، واهبة الرخاء. وكانوا يشرفون على طقوس التضحية بالدماء والأرواح، لاستبقاء المناخ المواتى للزراعة. لكن فى عام 900 م، بدأت الأمور تنحو نحوا مغايرا، حيث شكل الاكتظاظ السكانى ضغطا هائلا على الموارد. وأدت المنافسة المتزايدة عليها، إلى دخول المايا فى صراع عنيف مع الدول المجاورة. كما تسببت التقلبات المناخية فى فترات من الطقس الجاف امتدت قرونا، ما أدى إلى تدمير المحاصيل، وقطع إمدادات مياه الشرب. حينئذ، بدأت سلطة الملوك فى التهاوى، ونفوذهم فى التراجع. تزامن ذلك مع اشتعال الحروب على الموارد الشحيحة أصلا. رغم أفول حقبة ازدهار ملوك المايا، بقى السكان قرنا آخر، حتى أجبرهم جفاف شديد استمر من عام 1000 إلى عام 1100، على النزوح من مراكزهم السكانية الكبرى.
انتهت دراسة حديثة، نشرت بالمجلة العلمية «ناشيونال أكاديمى ساينس»، إلى أن تغير المناخ، وليس، جنكيز خان، هو المسئول عن القضاء على حضارات الأنهار فى آسيا الوسطى قبل سبعة قرون خلت. فعقب تقصيهم للتاريخ الإيكولوجى لبحر«آرال»، اكتشف باحثون بريطانيون، أنه كان بحيرة عظيمة، تقع بين كازاخستان وأوزبكستان، وتغطى مساحة تعادل نصف مساحة إنجلترا. وكان نهراها الرئيسيان، أموداريا وسير داريا، مركزا لحضارات النهر المتقدمة، ومحورا حيويا لطرق الحرير، طيلة أكثر من ألفى عام. وطيلة قرون، اعتقد كثيرون أن أفول تلك الحضارات، كان نتيجة للغزو المدمر من قبل الإمبراطورية المغولية، بقيادة جنكيز خان، أوائل القرن الثالث عشر. بيد أن الدراسات الحديثة حول ديناميكيات الأنهار على المدى الطويل، وتاريخ شبكات الرى القديمة، أظهرت، أخيرا، أن الجفاف الموحش، الناجم عن تغير المناخ، كان المسئول الأول. فبعدما أعاد الخبراء بناء آثار تغير المناخ على الزراعة بمياه الفيضانات، جزئيا، باستخدام التأريخ الإشعاعى لقنوات الرى، وجدوا أن تناقص تدفق الأنهار، المنبعث من ظروف الجفاف الممتد، كان المتسبب فى انهيار حضارات الأنهار المنسية فى آسيا الوسطى.
ويظهر تحليل أنماط الأنهار التاريخية والمواقع الأثرية، أن المنطقة عاودت الازدهار سريعا عقب تعرضها لغزوات، خلال القرنين السابع والثامن الميلاديين، مع عودة الأجواء الرطبة المواتية. ولكن من المحتمل أن يكون الجفاف الشديد وطويل الأمد، مع انخفاض تدفقات الأنهار، أثناء وبعد الدمار المغولى اللاحق، هو ما قلل من قدرة السكان المحليين على الصمود. كما حال دون إعادة تنشيط الزراعة القائمة على الرى. وإبان ستينيات القرن الماضى، بدأ حوض بحر «أرال» بالانكماش، حتى أشرف على الجفاف التام، بحلول عام 2010. وهو التحول، الذى اعتبرته اليونسكو «مأساة بيئية».
ربما لا يختلف الأمر كثيرا فى أيامنا هذه، عما عاصرته الأمم السابقة. فلا زال بمقدور التغيرات المناخية مفاقمة الهجرة، وإعادة توطين البشر، وإذكاء الصراعات، وإسقاط الأنظمة الحاكمة، وإحداث تحولات جذرية فى المراكز والأنماط الحضارية حول العالم. وصولا إلى تدمير العمران، والإجهاز على الجنس البشرى قاطبة. ففى عام 2015، تنبأ مُسلسلٌ كوميدى أمريكى، بعنوان: «آخر إنسان على الأرض»، من تأليف وبطولة، ويل فورت، بهكذا سيناريو. حيث تخيل مهاجمة فيروس مميت سكان الكوكب عام 2020، لم ينجُ من شره، سوى رجل وحيد. فما لبث أن طاف الولايات المتحدة، بحثا عن ناجين، حتى عاد بخفى حنين، معتقدا أنه الساكن الأوحد للبسيطة. وبمرور الوقت، وتحت وطأة الوحدة الموحشة، واليأس المشوب بالخوف، تحدثه نفسه بالانتحار.
لم تنحصر التداعيات المدمرة للتغيرات المناخية، فى النيل من التراث الثقافى والإرث الحضارى للإنسانية فحسب، وإنما امتدت لتطال المجتمعات المحيطة بهما. ويبدو الخطب أشد كارثية فى منطقة الشرق الأوسط وشرق البحر المتوسط. حيث تؤكد الدراسات العلمية تنامى الاحترار فيها، بمعدل أسرع مرتين من نظيره فى سائر الأصقاع المأهولة. وبناء عليه، تخضع المواقع التاريخية والأثرية هناك، لحصار خطر محدق، جراء تكرار حرائق الغابات، والعواصف الرملية، وتعاظم معدلات تلوث الهواء، وتنامى ملوحة التربة، علاوة على ارتفاع مستوى سطح البحر. بالتزامن مع عجز الإمكانات، وغياب الاستراتيجيات المتكاملة، التى تكفل التعاطى الناجع مع هكذا مُلمات.
رغم ضبابية المشهد، لا يفتأ عالم المناخ، إيفيند سيلاند، يراهن على أهلية إنسان هذا الزمان، لتجاوز التحديات المناخية، وإنقاذ موروثاته الثقافية، ومواصلة مسيرته الحضارية نحو غد أفضل. فما من تهديد بيئى أو مناخى يتربص بعالمنا حاليا، إلا وكان له نظير، فى سالف الزمن. وما علينا؛ إلا تعلم الدروس، والتماس العبر، وتوحيد الجهود، وتعبئة الطاقات، لتحقيق الاستفادة المثلى من تراكمنا المعرفى الخلاق.

التعليقات