سيرة ذاتية عن «كاتب الأماكن» الذى ذاع صيته فى الخمسينيات تكشف كواليس كتابته لـ «رباعية الإسكندرية»
«الجارديان»: «رباعية الإسكندرية» أعادت سرد الأحداث السياسية والمجتمعية من زوايا متعددة مما جعلها علامة فى أدب الرحلات حتى يومنا هذا
لا يعرف الكثيرون فى زمننا الحالى عن «كاتب الأماكن» الأشهر الراحل، لورانس داريل، وهو روائى وشاعر وكاتب رحلات بريطانى، يُعدّ من أبرز الأسماء الأدبية فى القرن العشرين الذين مزجوا بين الأدب والمكان والفلسفة، وقد أعاد رسم الخريطة الروائية للقرن العشرين من منظور كوزموبوليتانى خاص بالأماكن.
وبرز «داريل» فى الأدب العالمى بفضل عمله الأهم «رباعية الإسكندرية» (الصادر بين عامى 1957 و1960)، وهو عبارة عن سلسلة روائية تجريبية تدور أحداثها فى مدينة الإسكندرية المصرية خلال الحرب العالمية الثانية، وزخرت تلك السلسلة بمزج بديع بين عدة مفاهيم إنسانية عميقة كالحب والسياسة والجنس والهوية من خلال أربعة مجلدات أعادت سرد الأحداث السياسية والمجتمعية فى تلك الحقبة من زوايا متعددة، ما جعلها علامة فى أدب الحداثة.
وقد عُرف «داريل» أيضًا بأسلوبه اللغوى الرفيع، وبتصويره الفاتن للأماكن، خاصة مدن البحر المتوسط الذى عمل فى عدد منها كدبلوماسى مما أتاح له التوغل فى تلك المجتمعات التى كتب عنها؛ على غرار المدن اليونانية ككورفو وقبرص، بالإضافة إلى مدينة الإسكندرية المصرية، والتى لم تكن مجرد خلفيات جغرافية، بل شخصيات روائية قائمة بذاتها. ولطالما انشغل فى أعماله بموضوعات الاغتراب، والهوية الثقافية، والانتماء، وتهشّم الإنسان فى عصر ما بعد الاستعمار.
وقد وُلد فى الهند لعائلة من جذور إنجليزية، ونشأ فى بيئة استعمارية متشابكة، تركت بصماتها العميقة على نظرته للعالم وهويته الذاتية، وهو ما ينعكس بوضوح فى أدبه الذى ذاع صيته فى الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى.
وعُرف كتاب «روح المكان» الذى أصدره لورانس داريل عام 1969 بأنه مجموعة من المقالات الصغيرة فى أدب الرحلات، غير أن عنوانه ذاته يكاد يكون وصفًا شاملًا لنتاج «داريل» الأدبى برمّته؛ فمن «خليّة بروسبيرو» الصادر عام 1945 - والذى وثّق فيه ثلاث سنوات قضاها فى جزيرة كورفو قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية - إلى مذكراته القبرصية «الليمون المُرّ» الصادرة عام 1957، مرورًا بتحفته السردية «رباعية الإسكندرية»، كان المكان – وبالتحديد جزر وسواحل البحر المتوسط – هو مركز ثقل تجربته الإبداعية.
وأعاد «داريل» تشكيل هذه الأمكنة فنيًا لتصبح مسرحًا يتحرك فيه رجال ونساء مزّقهم العنف السياسى والاجتماعى فى منتصف القرن العشرين، يتلمّسون طريقهم نحو بعضهم البعض وسط أنقاض حضارات عتيقة، نقلًا عن صحيفة الجارديان.
وانطلاقًا من روح كتابات «داريل»، تأتى السيرة الأدبية الجديدة بعنوان «لارى: سيرة ذاتية جديدة للورانس داريل»، وهى الثانية فقط التى تُكتب عن «داريل» منذ وفاته عام 1990، بقلم الكاتب الراحل المتخصص فى تاريخ وثقافات شرق البحر المتوسط، مايكل هاج، والذى وكان يمثّل أحد الأصوات البارزة فى هذا المجال؛ حيث كان كتابه «الإسكندرية: مدينة الذاكرة» (الصادر عام 2004) علامة فارقة فى أدب الرحلات.
وقد استند «هاج» فى هذا الكتاب إلى أعمال الشاعر اليونانى من مدينة الإسكندرية «كفافيس»، والروائى البريطانى إى. إم. فورستر، و«داريل» ذاته ليعيد تشكيل لوحة فسيفسائية للثقافة المتعددة التى سادت الإسكندرية قرونًا طويلة، حيث امتزجت الأصول اليونانية والإيطالية واليهودية والعربية على شاطئ شمال إفريقيا.
وقبل وفاته فى عام 2020، كان «هاج» قد أتمّ العمل على هذه السيرة حتى سنة 1945، واختير نشرها بعد وفاته. وعلى الرغم من أن «داريل» لم يحقق شهرته الأدبية الواسعة إلا عام 1957، إلا أن أغلب التحولات المفصلية فى حياته كانت قد تشكلت بالفعل بحلول نهاية الحرب العالمية الثانية، الأمر الذى يجعل من هذه السيرة رؤية مكتملة النواة لا ناقصة.
وتميز مايكل هاج بنظرته للمكان باعتباره نسيجًا اجتماعيًا وثقافيًا، لا مجرد تضاريس أو جغرافيا جامدة، وهو ما أضفى عمقًا جديدًا على مراحل «داريل» المبكرة، بخاصة طفولته ونشأته؛ فكان يقدم أسرته كـ«أنجلو ــ هندية»، أى بريطانية تعيش فى الهند الاستعمارية وتحنّ إلى الوطن الأم؛ فوالده، لورانس داريل الأب، كان مهندسًا مدنيًا يعمل على مشاريع السكك الحديدية، وهى وظيفة مألوفة للنخب البريطانية آنذاك.
إلا أن تحليل «هاج» الدقيق كشف أن عائلة «داريل» كانت بعيدة جدًا عن قمة الهرم الاستعمارى؛ فالأب والأم لويزا ديكسى وُلدا فى إقليم البنجاب الهندى، وكان ارتباطهما ببريطانيا هشًّا، بل وتشير القرائن إلى احتمال وجود أصول هندية فى نسب الأم، كما أن عدم إرسال الأبناء الأربعة إلى بريطانيا لاستكمال تعليمهم، جعل العائلة تُصنَّف اجتماعيًا بالقرب من فئة «الأوراسيين»، أى أبناء المختلطين الذين شكلوا الطبقة الدنيا فى المجتمع الاستعمارى الهندى.
ولم يتوقف «هاج» عند هذا الحد، بل أماط اللثام عن عدد من الأساطير الذاتية التى اختلقها «داريل» عن نفسه؛ فلم تكن عائلته أيرلندية كما زعم، ولم يكن يرى جبل إيفرست من سريره فى المدرسة الداخلية بـدارجيلينج كما ادّعى لاحقًا، بل كانت نوافذ مهجع نومه تطل فقط على ملاعب مملة باهتة. وربما كانت هذه المبالغات ستارًا يُخفى خلفه طفولة مضطربة، خاصةً مع بدايات إدمان والدته للكحول، وهى معاناة انتقلت لاحقًا إلى جميع أبنائها الذكور.
وسبق لهاج أن تناول الحياة العائلية لآل «داريل» فى كورفو بكتابه «عائلة داريل فى كورفو» (الصادر عام 2017)، لكنه يعود فى هذه السيرة ليؤكد أن حتى الفردوس له شوائبه؛ فقد كان يُنظر إلى العائلة فى الجزيرة بنظرة ريبة وازدراء من قِبل الطبقة الأرستقراطية، بينما شعر الكهنة والفلاحون بالإهانة من عادتهم السباحة عراة دون اعتبار لنظرات الآخرين.
ولعل أبرز محطة من محطات تلك السيرة الذاتية الحافلة هى حين انتقل «داريل» إلى مدينة الإسكندرية المصرية عام 1942 بصفته الملحق الصحفى فى السفارة البريطانية؛ حيث أبدع «هاج» فى وصف الطابع التعددى للمدينة وطبيعتها الحسية والعرقية، وهو السياق الذى التقى فيه «داريل» بـإيف كوهين – نموذج شخصية «جستين» فى أول أجزاء رباعيته – والتى أصبحت لاحقًا زوجته الثانية.
ومن المثير أن السيرة الأولى لداريل كتبها الكاتب إيان ماكنيفن، الذى كُلّف من قبل «داريل» نفسه لإنجازها الذى أتاح له الوصول إلى أوراقه الخاصة، لكن نتيجة هذا الترتيب جاءت مطوّلة ومفرطة فى التقدير، أما «هاج»، فهو وإن لم يضع نصب عينيه التشهير، فإنه لم يتوانَ عن إظهار الجوانب المظلمة من شخصية «داريل»؛ فالأديب المؤثر الراحل كان عنيفًا، متعاليًا، وعنصريًا، وقد تعامل مع ديانة زوجته إيفا اليهودية بقدر من التوتر والامتعاض، إذ كانت تثيره وتثير اشمئزازه فى الوقت ذاته.
وفى الختام، فإن السيرة الذاتية الجديدة لم تغفل عن تقييم مكانة «داريل» الأدبية الراهنة، حيث تراجعت شعبيته بشكل كبير، وأصبحت أعماله توصف بأنها مبالغ فيها أحيانًا أو متكلّفة فلسفيًا، ولا تكفى براعة عباراته لإنقاذها من هذا الانطباع، ولكن حق القول أن مايكل هاج قد نجح فى تقديم «داريل» ككاتب متمكن من أدواته فى تصوير المكان، لا كمحلل عميق للطبيعة البشرية، ولا كرمز حداثى أُسىء فهمه.