عندما يكون الفقر اختيارًا - ريم عبد الحليم - بوابة الشروق
الإثنين 20 مايو 2024 5:40 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عندما يكون الفقر اختيارًا

نشر فى : الجمعة 2 مايو 2014 - 6:15 ص | آخر تحديث : الجمعة 2 مايو 2014 - 6:15 ص

قضى المواطن المصرى دهرا وهو ينتظر نتيجة تأثير ارتفاع معدلات النمو على حل مشكلة الفقر ولم تتحقق الآمال والوعود المعقودة، لتنشط الأذهان فى دراسات وتحليلات وتصريحات وتعلن كلماتها «إن النمو وحده لم يكن كافيا، ولابد من دراسة إعادة توزيع عوائده»، هذه العبارة تحمل معنى أن استهداف النمو وفقط هو بالأساس السياسة الاقتصادية السليمة، ومنبت الرخاء، فلنحققه بأى طريقة أولا، ثم نتدارس توزيع عوائده، بحيث تدرس عملية توزيع العوائد بشكل مستقل ولاحق لعملية صناعة النمو ذاتها.

يحاول هذا المقال أن يذهب بعيدا ليثبت أن استهداف النمو بشكل مجرد ومنفصل عن عملية صياغة نموذج عادل للنمو هدف اقتصادى ظالم فى ذاته، بل إن عملية صناعة النمو قد تكون مسار لإحداث فقر مواز، وذلك عندما يكون الفقر وقود جيد ومطلوب لإحداث نوع خاص من النمو.

ومن ثم فالمدخل الأصوب للتحليل هو «النمو أداة مطلوبة للسياسة الإقتصادية، التى تستهدف بالأساس حصول الإنسان على حقوقه»، فعلينا أن نسعى لتحقيقه ولكن من خلال نظرة جادة حول عملية صناعة النمو نفسها ليتحقق الهدف منه.

•••

إن الفرق بين المدخلين كبير، ولعل مصر الجميلة نموذج جيد لتحقق هذه التفرقة وتدارسها، فقد أقامت الدولة منذ فترات طويلة كانت أبرزها منذ العقد الأخير لحكم مبارك سياستها على الدفع بالنمو السريع، عدة مسارات كان الفقر فيها وقود لإحداث هذا النمو:

تحجيم عنصر العمل ومنع العمل النقابى وسيطرة الدولة الكاملة على كل مسارات تعبير العمال عن حقوقهم فى أجر ومعاش عادل ونصيب عادل كذلك من الأرباح، فجاءت صياغة قانون العمل رقم 12 لعام 2003 مكرسة لسيطرة رأس المال بشكل كامل، فى سبيل إحداث التراكم الربحى المطلوب للنمو، ورفع القدرة التنافسية للصادرات.

دور فريد للموازنة العامة للدولة لتمويل الأغنياء وحث رأس المال دون مقابل، فالنفقات تتركز فى الرواتب التى لا تحكمها قواعد واضحة تمنع شخصنتها لتمول الفساد، والدعم الذى تلتهمه بالأساس المنتجات البترولية، التى تأتى الصناعات كثيفة رأس المال والطاقة على رأس المستفيدين منها، وهى الصناعات التى ظلت سنوات تصدر انتاجها للعالم بالسعر العالمى لتحقق أرباحها، والأعجب هو الجانب المكمل من الصورة والذى يتجلى فى تدنى نصيب الضرائب على الشركات (دون الهيئة العامة لقناة السويس والهيئة العامة للبترول) لإجمالى الحصيلة الضريبية حيث لم يتعد فى أوج النمو فى عام 2007/ 2008 أقل من 15% من إجمالى الإيرادات الضريبية فى الدولة. أى أن الدولة اختارت أن تدلل رأس المال لإنتاج النمو «بحيث يأخذ ولا يعطى»!

قانون رخو لحماية تقسيم السوق لصالح قوى محدودة وهو القانون رقم 3 لسنة 2005 وتعديلاته لحماية المنافسة ومنع الاحتكار والذى وضع شروط تعجيزية لتعريف المحتكر من الأساس، ناهيك عن الوصول لمرحلة محاسبته، فلو حاولت الدولة المساس بمنافع أى من المحتكرين انتصر هو لمصالحه بتوقيف الإنتاج أو رفع السعر.

اختيارات الدولة فى أوقات الأزمات والتى عكست التحفيز قبل حماية الفقراء، فبعد أزمة عام 2008/ 2009 تعكس الأرقام زيادة نصيب صندوق تنشيط الصادرات من الدعم فى مقابل تخفيض نصيب دعم الأدوية والتأمين الصحى.

الخصخصة والتى لا يناقش المقال ضرورتها أو عدم ضرورتها بقدر ما يناقش كيفيتها ونتيجتها، فقد رفعت نسب البطالة دون وجود صندوق للإعانة ودون توجيه حصيلتها لرفع جودة خدمات التعليم والصحة، بل لتمويل عجز الموازنة المتفاقم كبديل عن حصيلة الضرائب المباشرة.

كل ذلك للدفع بالنمو وتيسير سبل النمو، دون التوقف للتساؤل عن نهاية المسار وأسباب تعطل تساقط الثمار، فالفقر المطلق وليس النسبى كان يتزايد بشدة، وربما كان إغفال الإجابة عن أسباب تفاقم زيادته خاصة فى السنوات الأخيرة من حكم مبارك لأن الإجابة الجادة تحتم إعادة النظر فى نموذج المصالح والحوافز الذى اختاره النظام باسم «النمو»؛ ولأن الإجابة الجادة كانت سوف تستدعى عدم تحميل الأزمة للفقراء لأنهم عانوا كثيرا فى سبيل تراكم الأرباح دون جدوى، فعلى الأقل لابد من حمايتهم من تبعات الأزمة.

•••

كاقتصادى لا يمكنك إلا أن تتفهم أن نظام الدعم السلعى الحالى ظالم بكل المقاييس ولكن يجب أن يحتل عقلك أن سبب توصيفه بعدم العدالة ليس لأن الفقراء لا يُمنحون منه بالقدر الكافى فقط، بل لأنه بتوجيهه لتوليد الربح وتركيز النمو فى صناعات بعينها ينتج فقرا فى حد ذاته، فهذا الفهم يقود لعلاج أعدل لمشكلات الموازنة العامة، ويحتم على الدولة إعادة النظر فيما تسميه نموا وما يستتبعه من سياسات.

لا يمكنك كاقتصادى إلا أن ترى أن الدولة عاجزة عن إدارة الخدمات بشكل فعال، ولكن يكون مدخلك الأساسى لحل المشكلات هو عدم وجود حوكمة لإدارة الدولة أو لنقل بعض المهام للقطاع الخاص وعدم وجود مجالس شعبية محلية وإدارت غير فاسدة للكثير من المؤسسات، وليس أن الخدمات والمؤسسات عبء على الدولة ينتج عنه عجز ولابد من التخلص منها سريعا لتحقيق استدامة مالية غير حقيقية.

•••

لا يمكنك كاقتصادى إلا أن ترى أن النمو مطلوب لخلق الدخل الذى نناقش توزيعه من الأساس، ولكن لا يمكنك أن تقبل نموا لا يرى سوى المستثمر، «أى منتج وأى انتاج»، ويقوم على تكريس حمايته ومنحه كل الحوافز الممكنة دون أى تنظيم، فى الوقت الذى يكون فيه دور الطبقة الوسطى الاستهلاك والطبقات الأفقر الانتظار وتحمل الأزمات بصبر غير مسبوق. حماية المستثمر مطلوبة ولكن فى إطار القيام بدوره التنموى والتشغيلى وليس دوره فى «عمل قرشين وخلاص»، بل إن هذا النمط من تحقيق النمو لا يمكنه أن يكون مستداما، فحتما ينتهى بتزايد الدين العام ومن ثم مزاحمة القطاع الخاص مصرفيا، وضعف مستويات الادخار محليا، ونضوب الموارد بسبب هدرها دون جدوى، وتضخم حتمى. أليس هذا كله هو ما نعانى منه الآن؟!

لا يمكنك كاقتصادى إلا أن ترى أن القطاع الخاص هو الأكثر قدرة على خلق الوظائف وأن الاستثمار الأجنبى مطلوب، ولكن فى الوقت ذاته فإن دور العمل ليس خلق الربح للمستثمر وفقط، بل دوره مهم كعنصر مشارك فى الإنتاج، وتشغيل الاقتصاد بالاستهلاك والادخار كذلك.

•••

كمواطن لا يمكنك سوى أن تقلق من سرعة إصدار قوانين أقل ما توصف به أنها غامضة دون وجود برلمان لحماية العقود والمستثمرين وحرمان المجتمع من حقه الأصيل فى الرقابة على الدولة، مع التلكؤ الواضح فى إصدار قوانين تتعلق بالعمل العادل، أو الحريات النقابية؛ فالسياسة الاقتصادية للدولة تقوم على توزيع الأدوار واستحقاقات التفاوض حول حقوق ومصالح كل طرف لتنتج تنمية متوازنة، وكلما ازدادت مساحة دور البطل الأوحد كلما كان نمط التنمية هشا وغير مستدام. فكثير من الجرائم ترتكب باسم النمو، وحينها يصبح الفقر اختيارا تأسيسيا للدولة، وليس نتيجة لسياساتها.

ريم عبد الحليم أستاذة الاقتصاد بجامعة القاهرة باحثة متخصصة في شؤون الفقر
التعليقات