استحوذ الذكاء الاصطناعى التوليدى على مخيلة العالم لأنه يبدو من المرجح أن يعمل على أتمتة مهام (تشغيلها آليا) كانت فى السابق تتطلب مهارات معرفية متقدمة. ومعه ينشأ احتمال حقيقى بأن تحل الخوارزميات محل عدد كبير من العمال المتعلمين والمتمرسين. ماذا قد يحدث عندما تتولى الآلات وظائف كتاب السيناريو، والمحامين، ووظائف الإدارة المتوسطة، بل وحتى الإدارة التنفيذية الرفيعة المستوى، وليس فقط وظائف نساج النول اليدوى وعمال السيارات؟
تتلخص إحدى الاستجابات لهذه الحال فى النظر إلى المهارات على أنها لم تعد تشكل أهمية كبرى، أو حتى الاستسلام لتصور مفاده أننا يجب أن نخفف من التأكيد على أهمية التعليم. على العكس من ذلك، فى حين لم تكن إمكانية زيادة الإنتاجية (وزيادة الدخول للجميع) من خلال التفاعل بين الإنسان والآلة أعظم مما هى عليه الآن مقارنة بأى وقت مضى، فإننا نحن البشر يجب أن نبذل قصارى جهدنا لتعظيم قدراتنا. يتعين علينا أن نعمل على تحسين أدائنا فى كل ما تواجه أجهزة الكمبيوتر صعوبة فى القيام به من عمل، بما فى ذلك فهم السياق، والتفكير خارج الصندوق، وإدارة العلاقات مع غيرنا من البشر.
وفقا لتقرير حديث صادر عن معهد ماكينزى العالمى، فإن ما يصل إلى 30% من ساعات العمل الحالية فى البلدان الصناعية قد تتحول إلى التشغيل الآلى بحلول عام 2030، فى ظل سيناريو التشغيل الآلى المعتدل. وفى حين فرض التشغيل الآلى الضغوط على العمال لعقود من الزمن، فإن الذكاء الاصطناعى التوليدى يؤذن بتسارع كبير وتغيير مؤلم فى حياة كثير من الناس الذين افترضوا أن حياتهم المهنية مستقرة.
فى الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى، يكاد يكون من المؤكد تقريبا أن عدد الأشخاص العاملين كموظفين فى المكاتب، وفى التصنيع، وممثلى خدمة العملاء سوف ينخفض مع ترسخ الذكاء الاصطناعى التوليدى. (يشمل التقرير تسع دول فى الاتحاد الأوروبى ــ جمهورية التشيك، والدنمرك، وفرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، وهولندا، وبولندا، وإسبانيا، والسويد ــ والتى تمثل 75٪ من السكان العاملين فى أوروبا، فضلا عن المملكة المتحدة).
• • •
لكن الأخبار ليست كلها سيئة. إذ تشير تقديرات التقرير إلى أن الطلب على العمال فى مجالات الرعاية الصحية، والطاقة النظيفة، وغير ذلك من المهن التى تتطلب مهارات عالية (مثل البحث العلمى والتطوير) من المرجح أن يرتفع فى ذات البلدان. بالطبع، لا يخلو الأمر من عوامل أخرى مؤثرة، بما فى ذلك الجهود المبذولة لتحقيق صافى الانبعاثات صِـفر (والتى تشكل أهمية لخلق فرص عمل جديدة فى مختلف البلدان الصناعية)، وقوة العمل المتقدمة فى السن (خاصة فى أوروبا)، والتوسع المستمر الذى تشهده التجارة الإلكترونية فى القطاع الخاص، وتعزز قوة البنية الأساسية الممولة من الحكومة.
بدلا من البطالة الجماعية، نجد أن النتيجة الأكثر ترجيحا هى أن كثيرا من الناس سيواجهون قريبا ضغوطا تحملهم على تغيير وظائفهم. واستنادا إلى افتراضات معقولة، قد تشهد أوروبا ما يصل إلى 12 مليون انتقال مهنى على مدى السنوات الست المقبلة.
فى حين يُـعَـد معدل الانتقال المهنى السنوى المتوقع (0.8% من العاملين) أقل من المعدل المرتفع نسبيا الذى لوحظ فى أوروبا أثناء جائحة كوفيد-19 (1.2%)، فإنه أعلى بمرتين من المعدل الطبيعى قبل الجائحة (0.4%). وفى الولايات المتحدة، قد يصل عدد الانتقالات بين الوظائف خلال ذات الفترة إلى ما يقرب من 12 مليونا، وإن كان هذا يبدو أكثر قابلية للإدارة، حيث سجلت الولايات المتحدة بالفعل معدل انتقال أعلى قبل الجائحة (1.2%) مقارنة بأوروبا.
يشعر المسئولون التنفيذيون على ضفتى الأطلسى بالقلق بالفعل بشأن نقص المهارات وعدم التوافق فى سوق العمل الـمُـحْـكَـمة. هذا خبر سار للبشر المؤهلين بشكل مناسب إذا ارتفع الطلب على المهارات الاجتماعية والعاطفية مع التكنولوجيات الجديدة. الواقع أن أكثر من 1100 مسئول تنفيذى استطلعت شركة ماكينزى آراءهم فى أوروبا والولايات المتحدة لم يكتفوا بالتأكيد على الحاجة إلى مهارات متقدمة فى تكنولوجيا المعلومات وتحليل البيانات، بل أكدوا على الحاجة أيضا إلى مزيد من العاملين الذين يتمتعون بالقدرة على التفكير النقدى، والإبداع و«التدريس والتدريب».
من المرجح أن تكون التأثيرات على الأجور كبيرة. وسوف يتحول الطلب على العمالة نحو المهن التى تقدم بالفعل أجورا أعلى فى كل من أوروبا والولايات المتحدة. ويتمثل خطر حقيقى فى خفض بعض الوظائف فى المهن الإدارية المنخفضة الأجر. وسوف يحتاج هؤلاء العاملون إلى اكتساب مهارات جديدة للحصول على عمل أفضل أجرا. إذا تمكنوا من اكتساب هذه المهارات ــ بأنفسهم، أو من خلال أرباب العمل، أو بمساعدة الحكومة ــ فسوف تتاح لهم الفرصة لتسلق سلم الأجور.
لكن الأمر ينطوى على خطر حقيقى يتمثل فى سوق عمل أكثر استقطابا حيث يتوفر عدد من فرص العمل الأعلى أجرا أكبر من عدد العمال المؤهلين (فيؤدى هذا إلى زيادة الأجور العليا)، ويتنافس عدد أكبر كثيرا من العمال على وظائف أدنى أجرا ومحدودة على نحو متزايد (فـيُـفـضى هذا إلى دفع أجور الطرف الأدنى من توزيع الدخول إلى مزيد من الانخفاض). سوف تكون هذه النتيجة انعكاسا مخيبا للآمال فى اتجاه انخفاض التفاوت فى الأجور فى سوق العمل بعد الجائحة. ما يدعو إلى التفاؤل أن هذه النتيجة من الممكن تجنبها.
• • •
من منظور صناع السياسات، يتمثل الدرس الرئيسى المستخلص من كل هذا فى أن رأس المال البشرى يشكل أهمية أكبر من أى وقت مضى للقدرة التنافسية الوطنية والرخاء المشترك. سوف تظل بعض الوظائف اليدوية مع البشر (تواجه الروبوتات صعوبة نسبية فى كثير من مهام التنقل والتنظيف الأساسية). لكن المسئولين التنفيذيين مقتنعون حاليا بأنهم فى احتياج إلى إعادة تدريب عدد كبير من العمال من أجل تلبية كل احتياجاتهم من المهارات. يجب أن تعمل السياسة العامة على تشجيع أصحاب العمل قدر الإمكان على مواصلة هذا التصرف وإعادة تأهيل العمال بدلا من الاستغناء عنهم.
الواقع أن نمو الإنتاجية الأسرع بشكل ملحوظ والرخاء المشترك، وخاصة فى أوروبا، من الممكن أن يتدفق من التكنولوجيا الجديدة، لكن هذا لن يحدث إلا إذا كان تبنى التكنولوجيا مصحوبا بمهارات بشرية مطورة وإعادة نشر العمال بشكل أكثر استباقية. لتحقيق هذه الغاية فى عصر الذكاء الاصطناعى التوليدي، يجب أن يتحلى المسئولون التنفيذيون قدر الإمكان بالصراحة بشأن فجوات المهارات الوليدة، وينبغى للحكومات أن تركز على تسهيل الأمور قدر الإمكان لكل العاملين الراغبين فى ترقية مهاراتهم فى الوقت المناسب وبالطريقة المناسبة.
•سيمون جونسون
•عالم اقتصاد أمريكى
••إريك هازان
••عضو فى مجلس معهد ماكينزى العالمى.
موقع Project Syndicate