حكاياتٌ ثلاث .. وقصةٌ واحدة - أيمن الصياد - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 12:24 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

حكاياتٌ ثلاث .. وقصةٌ واحدة

نشر فى : الأحد 6 سبتمبر 2015 - 8:00 ص | آخر تحديث : الأحد 6 سبتمبر 2015 - 11:09 م

شيخ ثمانيني معمم، وفتاة مسيحية صغيرة، وأستاذ للهندسة النووية لا يخفي انتماءه لليسار. والثلاثة على اختلاف أعمارهم وانتماءاتهم كانوا في الأيام الماضية عناوين لحالات غياب للعدالة.. أو للدقة «للإحساس بها». 

«العدالة» ليست نصوصًا في قوانين. «العدالة إحساسٌ» إذا غاب أصبح مفهوم «الدولة» ذاته في خطر

حسن الشافعي (٨٥ سنة) الشيخ الأزهري، والعالم «الدرعمي» الحاصل على الدكتوراه من جامعة لندن، وأستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية دار العلوم، التي يُدَّرس بها منذ عام ١٩٦٣. والذي شرف جامعة القاهرة باختياره ليجلس على مقعد أحمد لطفي السيد وطه حسين رئيسًا لمجمع اللغة العربية «مجمع الخالدين» قررت جامعة القاهرة قبل أيام فصله مع زميل له «لجمعهما بين وظيفتيهما الجامعيتين وعضويتهما في مجمع اللغة العربية». الخبر لفجاجته لا يحتاج إلى تعليق، اللهم إلا الأسى لحال جامعة  لا تعرف قيمة أن يكون «رئيس مجمع الخالدين» بين أساتذتها. ولقرار لا يدرك من أصدروه الفارق بين «رئاسة مجمع اللغة العربية»، وبين الانشغال أو الاستثمار في محل للأطعمة السريعة أو «كشك» لبيع الحلوى والسجائر. كما لا يدرك من سكتوا عنه المآلات التي سيأخذهم ويأخذنا ويأخذ الجامعة إليه ذلك «الالتزام الخانع» للتعليمات الأمنية.

ربما لا يعلم كثيرون أن الاسم الثاني في قرار الفصل المعيب هذا كان من نصيب «العلامة النحوي» الدكتور محمد حماسة عبد اللطيف، والذي كان أعضاء مجمع الخالدين، تقديرًا لعلمه قد انتخبوه نائبا للرئيس قبل مايزيد عن العامين. ولأن «قدر المفصولين» هو بالضرورة مقدار الخصم من قيمة الجامعة التي فصلتهم، يصبح القلق على تلك الجامعة التي نعتز بانتسابنا لها مفهوما ومشروعًا.

لا أحد يجهل السبب «الحقيقي» للقرار المتخفي في صياغات قانونية «تجميلية» تدينه، لو أخذناه على محمل الجد «بالتمييز» الفج على أقل تقدير. فالذين سبقوا د. الشافعي في رئاسة المجمع كانوا كلهم مثله أساتذة جامعيين. فمحمود حافظ كان أستاذا لعلم الحشرات بكلية العلوم جامعة القاهرة، وشوقي ضيف وابراهيم مدكور كانا أستاذين بكلية الآداب بالجامعة نفسها، وكذلك طه حسين، وأحمد لطفي السيد الذي لم يتول فقط رئاسة مجمع اللغة العربية، بل كان أيضًا أول مدير لجامعة القاهرة ذاتها التي لا تتورع إدارتها اليوم في فصل أحد أساتذتها بتهمة ارتكاب «الجرم ذاته» الذي اقترفه أول مديريها. ويالها من مفارقة. 

الجامعة التي لا تعرف قيمة أن يكون «رئيس مجمع الخالدين» ونائبه بين أساتذتها فتفصلهما، تضع صفتها «الأكاديمية» في محل سؤال كبير

التمييز في قرار فصل الشافعي وزميله، بتهمة «الجمع بين وظيفتين»، يبدو صارخا حين نتذكر ما نعرفه جميعا من أن قائمة أساتذة الجامعة الذين يشغلون وظائف أخرى كانت دائما تتسع لتشمل (على سبيل المثال لا الحصر) الأعضاء المنتخبين أو المختارين لعضوية المجالس الثقافية والعلمية، ونواب ورؤساء مجلسي الشعب والشورى، فضلا عن كبار أساتذة الطب والهندسة والحقوق والاقتصاد والتجارة الذين إلى جانب مكاتبهم أو شركاتهم الخاصة، يشغل بعضهم عضوية مجالس إدارات لشركات أو بنوك.

بل وربما كان الأكثر إثارة أن كل أعضاء مجمع اللغة العربية الحاليين (عدا ثلاثة) أساتذة جامعيين. ورغم هذا اقتصر قرار الفصل على اثنين (حسن الشافعي ومحمد حماسة). ثم يريدون لنا أن نصدق أن الأمر لا يعدو أن يكون إعمالا لصحيح القانون (!) 

لا أحد يجهل السبب «الحقيقي» للقرار المتخفي في صياغات قانونية «تجميلية»، لم تنجح في أن تخفي ما فيه من «تعسف»، إذا استعرنا التعبيرات القانونية نفسها. كما لا أحد يجهل كيف أودت دولة «التقارير الأمنية» بالجامعات المصرية التي تخلفت فأصبحت في ذيل جامعات العالم 

•••

 على الناحية الأخرى من مجال العلم والانتماء الفكري، ولكن في الأسبوع ذاته، جاء في الأخبار أن الدكتور منير مجاهد والذي كان نائبا لرئيس هيئة المحطات النووية للدراسات استبعد من مشروع الضبعة النووي «بناء على أوامر جهات سيادية .. ولوجود تحفظات أمنية على شخصه» (!)

لم يرتدِ د. مجاهد عمامة ولم يطلق لحيته، ولكنه كان دومًا من أولئك الذين لا تحبهم الأجهزة الأمنية التي تعتقد أن مهمتها هي الحفاظ على أمن «النظام» والحاكم .. لا الوطن.

يعرف جيلنا منير مجاهد كأحد قياديي الحركة الطلابية «اليسارية» بكلية الهندسة جامعة القاهرة بداية السبعينيات. ثم نعرفه الآن كعضو مؤسس لحزب التحالف الشعبي الاشتراكي. ثم، وهذه مفارقة أخرى نعرفه كمنسق لمجموعة «مصريون ضد التمييز» التي حاولت أن تلعب دورا في مناهضة التمييز بين المواطنين على أساس الدين. ثم كان أن فوجئ رجل العلم «الستيني» بقرار «تمييزي» بامتياز، يقضي باستبعاده «أمنيا» من مشروع الضبعة النووي، رغم أنه كان أحد الذين تصدوا أيام مبارك لمافيا الأراضي ذوي النفود الذين كانوا قد حاولوا الاستيلاء على أرض المشروع. هل هناك من العائدين (وهم كثر) من يصفي حساباته؟ أو هل يحاول «النظام» القائم على ثقافة «طاعة الأوامر» أن يؤكد مبادئه القاضية بعدم السماح ؛بتفكير مختلف».. أو ربما بالتفكير أصلا؟ لا أعلم. كما لن يعلم الرجل أبدًا (مثله مثل الذين طالهم إجراءٌ مشابه من دبلوماسيين وسفراء قبل أشهر) السبب فيما جرى معه. رغم الوعد الوزاري بإبلاغه. فدولة التحريات، بحكم ثقافتها الأمنية لا تعرف الشفافية. وفي دولة ابتدعت مصطلح الأجهزة «السيادية» لا يحق للوزير أو غيره أن يناقش أو يسأل. عليه فقط أن ينفذ الأوامر .. والتوجيهات. 

لم يكن منير مجاهد (اليساري) إلا واحدا في سلسلة طويلة شملت الكثيرين من أساتذة الجامعات. معظمهم من «أصحاب اللحى»  أو من تتصور التقارير الأمنية أنهم كذلك. فضلا عن أولئك الذين (لا يبدون الطاعة الواجبة للتوجيهات والتعليمات التي يصدرها ذلك الضابط الصغير). لا يشغل كاتب التقرير الأمني نفسه كثيرا بالكفاءة الأكاديمية للأستاذ الذي يستبعدونه أو يضيقون عليه الخناق. هذا إذا لم يختصروا المسافة ويعتقلونه. كما لا يشغل نفسه طبعًا بالدستور أو القانون، فهو لم يعتد أصلا أن يخضع لأيهما، فهذه كلها شكليات. «والدستور طموح جدًا..» كما يقول رئيس الدولة نفسه (!)

•••

أعرفتم معنى ما جرى مع الشيخ المعمم أو مع اليساري المناضل؟ ثم أعرفتم لماذا لم يصدق الناس الحكومة ووزيرها في قضية مريم؟

على خلفية تصريحات تتحدث عن استثناء «أبناء الضباط والقضاة من التوزيع الجغرافي للقبول في الجامعات»، وبعد تصريحات متضاربة أخرى تشير إلى حرمان «أبناء الأقاليم» من الالتحاق بكليتي الإعلام والعلوم السياسية (المميزتين) لم ينته أغسطس الأكثر حرارة هذا العام، حتى كانت فتاة صغيرة باكية قد أطلت علينا بحكاية صادمة في تفاصيل ما روت (والعهدة على الراوي). تقول الحكاية التي باتت معروفة للجميع أن الفتاة «المتفوقة» في كل سنين دراستها قد حصلت على (صفر) في كل مواد امتحان الثانوية العامة، التي كانت قد دخلته على أمل الالتحاق بكلية الطب التي سبقها إليها شقيقيها في الأسرة «المسيحية الصعيدية» المتفوقة. وبقية القصة معروفة بداية من الافتراض «النظري» بأن هناك من أبدل أوراق إجابتها لصالح أحد أبناء أصحاب النفوذ أو الثروة، وليس نهاية بتصريحات الوزير المدافع عن النتيجة، فضلا عن قرار للنيابة بحفظ التحقيق في القضية، يعقبه قرار آخر بفتح التحقيق فيها. بعد ما نقلته الأخبار عن لقاء رئيس الحكومة بالفتاة. 

لم تنته فصول القصة بعد. وليس لأحد أن يقطع بحقيقة ما جرى. ولكن الذي جرى ونعرفه أن قصة «مريم ملاك تادرس» كانت الأوسع انتشارا على مواقع التواصل الاجتماعي، كما كانت الأكثر حضورا في دردشات أمسيات الصيف المصرية الطويلة. والحاصل أن أيا ما كانت الحقيقة التي ستظهر (أو ربما لا تظهر) فقد بدا واضحا من مطالعة التعليقات حول قضية «طالبة الصفر» أن الثقة في العدالة في مصر أصبحت للأسف لا تساوي أكثر من هذا «الصفر». وهو أمرٌ لو تعلمون عظيم.

القضية الحقيقية ليست قضية مريم المعلقة (التي لم تُحسَم بعد). بل قضية خطر نبهنا إليه ألف مرة. «فالعدالة»، كما تعرفها فلسفة القانون، وكما يحرص عليها شيوخه حين يقضون بين الناس «بعدل الله»، ليست مجرد نصوص في قوانين. وإنما «العدالة إحساس» إذا غاب أصبح مفهوم «الدولة» وتعريفها ذاته في خطر

•••

في مصر الآن من لا يتردد في أن  يدوس على الدستور الذي يقرر أن «المواطنون لدي القانون سواء …»

قرأنا كغيرنا قصص أغسطس الثلاث، على خلفية تظاهرات وإضراب واعتصام «مسلح» لرجال شرطة حاولوا منع مدير الأمن ومساعديه من الدخول إلى مكاتبهم. وتذكرنا أن لدينا قانونا يضع للتظاهر دون تصريح عقوبات مغلظة. وقوانين «للإرهاب» تصل عقوباتها إلى الإعدام والسجن المؤبد في حال ارتكاب ما شاهدنا مثله من رجال الشرطة في مديرية أمن الشرقية. ثم كان أن استمعنا إلى التصريحات «الرسمية» حول الموضوع والتي بدأت كالعادة بترويج التهمة الجاهزة «اتهام أمناء الشرطة المتظاهرين بالانتماء للإخوان»، لتنته، بعد يومين «بتقديم الشكر» لهم على إنهاء اعتصامهم، مع وعد بدراسة مطالبهم (!). لا أعترض هنا على حق الاحتجاج أو الإضراب أو التظاهر، فهي كلها حقوق مقررة دستوريًا. وقد لا يكون غيرها (في دولة تعاني من انسداد القنوات السياسية) أسلوبا لمطالبة الناس بحقوقهم المشروعة. ولكني أتحدث هنا عن التمييز الفج والكيل بمكيالين. والرسالة الواضحة التي وصلت للجميع. بأن في مصر الآن من لا يعتبر المصريين متساويين في الحقوق. وبأن في السلطة الآن من لا يتردد في أن  يدوس على الدستور الذي يقرر أن «المواطنون لدي القانون سواء …» (المادة ٥٣)

أرجوكم عودوا إلى قصص الآلاف من المحبوسين ظلمًا، (بشهادة الرئيس نفسه). واقرأوا ما كتبته «الأهرام» لا غيرها عن الحرمان من الحقوق والتعسف مع عصام سلطان؛ «المواطن» قبل أن يكون سجينا. وعودوا إلى أرقام الذين ماتوا في السجون وهم مازالوا أبرياء (بحكم أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته). وشاهدوا صور إسراء الطويل السجينة الصغيرة التي تمشي على عكازين. واقرأوا قصة يارا سلام وصويحباتها، وحكاية محمود شوكان مع «الحبس الاحتياطي» الذي يبدو بلا نهاية. وقصة المهندس الشاب هاني الجمل الذي ترك جامعته العالمية المرموقة ليعود إلى مصر يشارك في بناء مستقبلها، فكان نصيبه السجن عقابا على «وقفة احتجاجية سلمية» لم يحمل فيها سلاحا، ولم يحاصر فيها مديرية الأمن (!). 

أعرفتم لماذا لم يكن ما جرى مع الشيخ المعمم أو مع اليساري المناضل بخارج عن سياق «ما يجري في مصر الآن»؟ ثم أعرفتم لماذا لم يصدق الناس الحكومة ووزيرها في قضية مريم؟ 

لأن « «العدالة إحساس». ولأن الثقة في العدالة التي هي في تعريفها الأول المساواة بين الناس باتت في خطر. 

•••


وبعد..

فقد آثرت هنا في الحديث عن غياب «الإحساس بالعدالة» أن أبتعد عن ما يجرى في أروقة المحاكم وفي السجون. فضلا عن ما تكشف عنه ملفات القضايا، والمحاضر والإجراءات، وشهادات المنظمات الحقوقية والمحامين والحاضرين .. ففي تفاصيل ذلك كله ما لم يعد بحاجة إلى تبيان بعد أن كتبنا وكتب غيرنا محذرين ألف مرة من طريق نسير فيه دون أن ندرك إلى أين.

منشغلين بصور الاحتفالات الضخمة، وبترويج أحلام «الرخاء القادم»، تصم اذانَنا أوهامُنا وطبولُ الانتقام وتصفيةُ الحسابات، دون أن ندرك خطورة التمييز والتهميش وأن يفتقد الناس إحساسَهم بالمساواة والعدالة. ودون أن نتعلم من التاريخ أن هذا كان كفيلا بأن يحدث ما حدث لدول اكتفت جماهيرُها بأن تقف مطيعة خلف زعمائها تصفق للاستعراضات العسكرية المهيبة، وتردد الشعارات وأهازيج الاحتفالات. لا فرق بين الاتحاد السوفياتي الذي تفكك و بين ألمانيا هتلر وسوريا الأسد وليبيا القذافي والعراق صدام ثم المالكي.. بل ومهاويس أبي بكر البغدادي. 

أكرر للمرة الألف ربما: العدالةُ ليست مجرد نصوص في قوانين، وقضاة يرتدون الأرواب السوداء، ومطرقة على منصة عالية. وإنما «العدالةُ إحساس» إذا غاب أصبح مفهومُ «الدولة» وتعريفها ذاته في خطر.

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

لمتابعة الكاتب:

twitter: @a_sayyad

Facebook: AymanAlSayyad.Page

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

روابط ذات صلة:

ــ تحت قبة الجامعة

ــ عن كل إسراء ويارا .. والذين تكلم عنهم الرئيس

ــ عن الخليفة والأمير والرئيس.. «والثقافة الحاكمة»

ــ من يحرس العدالة .. والوطن

ــ قصة هاني الجمل

أيمن الصياد  كاتب صحفى
التعليقات