الناس سير.. وعندما تصحب السيرة الطيبة الإجماع فتلك هى الندرة من الناس.. والدبلوماسى الفذ والقانونى الضليع السفير الدكتور نبيل العربى من هذه الندرة من البشر.
عرفت نبيل العربى لأول مرة منذ ثمانية وخمسين عامًا، عندما صدرت الحركة الدبلوماسية فى أبريل 1966 متضمنة نقلنا للعمل ببعثة جمهورية مصر العربية لدى الأمم المتحدة فى نيويورك.. كنا خمسة من درجات متقاربة هم المرحوم السفير عبدالحليم بدوى ابن المرحوم عبدالحميد باشا بدوى الذى وقع نيابة عن مصر على ميثاق سان فرانسيسكو الذى أنشأ الأمم المتحدة. كانت صورته تطالعنا كل صباح ونحن ندخل المقر بنيويورك، صورة توقيع الميثاق.
كان المرحوم عبدالحليم هو أقدمنا درجة، وكان المرحوم نبيل العربى بدرجة سكرتير أول، وكنت أنا وعمرو موسى بدرجة سكرتير ثان، والزميل السفير حمدى ندا بدرجة سكرتير ثالث، وانضم إلينا بعد أقل من عام الدكتور محمد البرادعى الذى كان بدرجة ملحق أى أصغر الأعضاء.
• • •
فى العمل الدبلوماسى، فإن الخدمة فى الخارج تتيح التقارب بين الأعضاء وأسرهم خاصة الأرواح المتقاربة بشكل كبير وتولد صداقة ومودة تدوم وتزداد وهذا ما حدث.. كما أن الأحداث الجسام التى مرت علينا صهرتنا فى بوتقة واحدة.. فلم يمضِ أقل من عام حتى حدثت النكسة أو الهزيمة المروعة فى يونيو 1967 وانتقلت المعركة إلى ساحات الأمم المتحدة فى نيويورك حيث يوجد من اليهود عدد يفوق ما فى إسرائيل.. جمعتنا المأساة وجمعتنا المعاناة.. وقد كتبت كثيرا عن أحداث هذه الفترة فى مقالات عديدة، وخصصت فصلًا طويلًا فى الكتاب الذى صدر لى عن دار الهلال بعنوان «لاعبون أم متفرجون فى الساحة الدولية؟» لكننى الآن أتحدث قليلًا عن الرجل العظيم الذى فقدناه.. نبيل العربى..
• • •
قلت إن الساحة انتقلت إلى الأمم المتحدة وأصبحت المعركة معركة دبلوماسية قانونية، وكان من حسن حظ البعثة المصرية أن يوجد فيها فى هذا الوقت علمان من أعلام القانون الدولى، وهما الدكتور عبدالله العريان والدكتور نبيل العربى، وكلاهما شغل منصب القاضى بمحكمة العدل الدولية فيما بعد.
• • •
كثيرون من يعرفون إنجازات نبيل العربى فى مجال الدبلوماسية والقانون الدولى ولكن قليلون يعلمون بجهوده لتوجيه السياسة المصرية فى الاتجاه السليم وتجنيبنا مخاطر السياسات العفوية التى تنطلق دون دراسة ودون إلمام بالعواقب.. مثل قرار سحب قوات الطوارئ الدولية من مضيق تيران عام 1967 وهو القرار الذى أدى إلى حرب النكسة عام 1967، والتى نعانى من آثارها حتى الآن، كما أن دور نبيل العربى فى محاولة توجيه النصح إلى الرئيس السادات فى مفاوضات كامب ديفيد الإطارى للسلام.. كلها باءت بالفشل.. ومن قبل ذلك حاول المرحوم إسماعيل فهمى إثناء الرئيس عبدالناصر عن قرار سحب القوات الدولية وكتب مذكرة شهيرة أوضح فيها العواقب.. لكن لا أحد يستمع إلى الخارجية بل ينظرون إلى تحضيراتها وتحليلاتها على أنها سفسطة كلامية.
• • •
كان نبيل العربى علمًا من أعلام الدبلوماسية والقانون الدولى داخل أروقة الأمم المتحدة وبذل جهدًا كبيرًا فى محاولات إصلاح الأمم المتحدة ومجلس الأمن على وجه الخصوص، ورأس اللجنة التى شكلت لهذا الغرض وكان يواجه تيارًا عاتيًا تقوده الولايات المتحدة التى عندما كثرت الضغوط عليها أعلنت موافقتها على خطة أسمتها الـQuick Fix أى ترتيب سريع أو «تلصيمه»، كما تقول العامية المصرية. تتضمن هذه الخطة إضافة ألمانيا واليابان إلى الأعضاء الدائمين وذلك دون التطرق لـ«حق الفيتو» الذى يشكل العقبة الحقيقية أمام قيام مجلس الأمن بدوره الذى رسمه الميثاق.
تصدى نبيل العربى لهذه الخطة الأمريكية وشكل بالتعاون مع مندوب إيطاليا مجموعة لهذا الغرض، وكانت مجموعة فريدة فى تكوينها، فهى لا تقوم على أساس جغرافى مثل معظم المجموعات الأخرى، أو على أساس إثنى أو لغوى مثل المجموعة العربية، أو دينى مثل المجموعة الإسلامية لأن أعضاءها ينتمون إلى كل هذه التصنيفات لذلك احتاروا فى اختيار اسم لها حتى استقر الاسم على «نادى القهوة»، توسع نادى القهوة هذا فى عضويته ونجحت هذه المجموعة فى إيقاف المشروع الأمريكى. وقد شاركتُ فى أحد اجتماعات هذه المجموعة عندما كنت أحضر دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة بصفتى مساعد وزير الخارجية لشئون الأمم المتحدة والمنظمات الدولية، وكان قرار نقل الدكتور العربى إلى القاهرة قد صدر وقد تبارى أعضاء المجموعة فى الإشادة بالدكتور العربى حتى أن سفير المكسيك وجه كلامه لى قائلًا -وكأنه معاتبًا- إذا كان لديكم سفير لديه نصف قدرات الدكتور نبيل العربى، أرسلوه لنا وسيكون سفيرًا عظيمًا جدًا.
• • •
عندما تولى نبيل العربى منصب وزير الخارجية لفترة قصيرة أعاد انسجام السياسة الخارجية المصرية مع الحس القومى العربى والشعور الوطنى المصرى، عندما أعلن أن الوضع القائم على حدودنا مع غزة «أمر مشين»، وأعلن تأييد الإعلان الرسمى لقيام دولة فلسطين والبدء فى إصلاح العلاقات مع إيران وعدم اعتبارها دولة معادية، والبدء فى ترميم العلاقات الإفريقية خاصة مع دول حوض النيل التى كاد بناؤها ينهار من الإهمال الطويل، كما سعى الدكتور العربى لعقد مؤتمر دولى بإشراف الولايات المتحدة بشأن القضية الفلسطينية، على أن يكون الهدف هو تحقيق السلام وألا يكون الهدف هو إنشاء عملية سلام والحفاظ على دوامها واستمرارها لإلهاء العقول واستنفاذ الوقت.
لقد علم نبيل العربى أن السياسة الخارجية الناجحة هى التى تنسجم مع الشعور الوطنى العام.
• • •
قلت يومًا فى حفل تكريم لنبيل العربى إنه من الناس الذين يحبهم الله، ومن أحبه الله كان سمعه الذى يسمع به وبصره الذى يبصر به، وقال الله فى الحديث القدسى «ولإن سألنى لأعطينه ولإن استعاذنى لأعيذنه» ثم يضع له القبول فى الأرض.
رحم الله فقيدنا الكبير رحمة واسعة وأجزل له العطاء