قصص على هامش السيرة الذاتية: قصة حمامة - جلال أمين - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 10:06 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

قصص على هامش السيرة الذاتية: قصة حمامة

نشر فى : الثلاثاء 10 مارس 2015 - 9:35 ص | آخر تحديث : الثلاثاء 10 مارس 2015 - 9:35 ص

«حمامة» اسم رجل عرفته عن قرب قبل أن أبلغ الخامسة عشرة من عمرى، واستمرت علاقتى به حتى جاوزت الثلاثين، عندما جاءنى نبأ مقتله فى ظروف غامضة، هى ما أريد أن أحكيه للقارئ.

لم يكن حمامة إلا خادما لأسرتنا، ولكنه كان شخصية مهمة فى هذه الأسرة طوال السنوات العشر السابقة على سفرى للبعثة فى إنجلترا. فلما رجعت من البعثة وسكنت بمنزل مستقل، كان لايزال يسكن فى بيت العائلة فى الدقى، يؤدى خدمات مختلفة لإخوتى فى مساكنهم المستقلة، ولا يكاد أحد منهم يستغنى عن هذه الخدمات، واستمر هذا حتى سافرت مرة أخرى لعدة شهور خارج مصر، فلما عدت فى ١٩٧٢ سمعت بذلك الخبر الفظيع.

نعم لم يكن أكثر من خادم، ولكن يدفعنى إلى تذكّره من حين لآخر، وإلى الكتابة عنه، أنه كان شخصية خارجة تماما عن المألوف، بل أستطيع أن أقول انه كان شخصية جميلة، رغم جهله التام وأميّته وقلة كلامه. لم أر منه ولا سمعت شيئا ينطوى على كراهية لأى شخص، أو شكوى من أى شىء. مستعد دائما لتلبية طلبات الجميع طالما كان قادرا جسمانيا على ذلك، ولا يناقشك أبدا فيما تعطيه له من مكافأة على عمل قام به، وكأنه فعل ما فعل لمجرد إرضائك وأن المكافأة، مهما كانت كبيرة أو صغيرة، لن يكون لها أثر مهم فى حياته.

كان هذا الموقف منه، إذا فكرت فيه قليلا، موقفا طبيعيا جدا، إذ ما الذى يمكن أن يصنعه بمبلغ من المال؟ كان ينام فيما كنا نسميه (بئر السلم) فى بيتنا بالدقى، على أرضية من البلاط المغطى بغطاء خفيف، وبجانبه موقد صغير يعمل بالجاز ويستخدمه فى تسخين ما تعطيه له والدتى من طعام. كان هذا الطعام يتكون من بقايا غذائنا نحن، من أرز ولحم وخضار، ولكن حمامة كانت له طريقته الخاصة فى تناول الطعام، إذ كان يخلط كل شىء بكل شىء، فى إناء واحد يقوم بتسخينه، دون أن يعنى بتمييز نوع عن آخر. وما بقى منه يتناوله فى اليوم التالى.

كان الذى دفع أبى إلى استخدامه كخادم فى منزلنا (وكان قبل ذلك يعمل فراشا فى لجنة التأليف التى يرأسها أبى)، ما لاحظه فيه من قوة جسمانية أكبر من المألوف. كان من أوائل القصص التى تداولناها عن حمامة أن أبى طلب منه مرة أن يستأجر عربة لنقل كنبة كبيرة كانت تحتاج إلى إصلاح، من بيتنا فى الدقى إلى نجار فى عابدين. أعطاه أبى خمسة وعشرين قرشا لينفق منها على استئجار العربة، ولكن حمامة رؤى بدلا من ذلك وهو يحمل الكنبة على رأسه عابرا بها كوبرى قصر النيل. وعندما سئل فى الأمر قال إن مبلغ الخمسة والعشرين قرشا بدا له أكبر بكثير من أن ينفق على شىء لا فائدة منه.

ومع هذا فلم يكن يبدو على حمامة أى حرص على جمع المال أو اكتنازه. كان يجمعه فعلا ويكتنزه، ولكن السبب، كما تأكدت من ملاحظة تصرفاته، لم يكن رغبة قوية فى المال، بل كثرة أفراد العائلة المحتاجين لخدماته، وقلة حاجاته هو. كان الشىء الوحيد الذى يبدو أنه حريص عليه هو كوب من الشاى، كل حين وآخر، ويشربه ثقيلا جدا وشديد السواد، بالإضافة، على الأرجح، إلى نوع ردىء ورخيص من المخدرات كان يشتريه فى صورة ملبن طرى يلوكه فى فمه. ربما كان لهذا النوع من المخدرات علاقة بشعوره الدائم بالسكينة وميله إلى الصمت. كنت كثيرا ما أراه جالسا القرفصاء أمام بيتنا، لا يفعل شيئا على الإطلاق، ولا يكلم أحدا إلا بالرد على تحية القادم أو الذاهب، وهو ينظر أمامه فى فراغ دون أن يبدو على وجهه أى تعبير.

ومع هذا كنت واثقا من أنه يحبنى ويثق بى، ربما لمجرد انى كنت أسأله من حين لآخر سؤالا أو سؤالين عن أحواله وصحته، كلما رأيته جالسا أمام الباب، دون أن يفعل هو أو يقول أى شىء يدل على هذه الثقة، باستثناء شكواه لى مرة من زوجة أخى الألمانية، وزوجة أخى الآخر، النمساوية، وكان يسميهما بنفس الاسم (جيتا) تاركا لنا تخمين ما إذا كان يقصد بريجيتا أم جريتا. لم تكن الشكوى تتعلق بالمال بل من أنهما وجهتا إليه عبارة رأى هو فيها بعض القسوة. ولكنه على أى حال لم يكن يطيل فى الشكوى من أى شخص. كان من الواضح أنه يحب والدتى حبا جما ويتفانى فى خدمتها، وكانت تبادله شعورا مماثلا، وكان هو الخادم الوحيد الذى احتفظت به حتى وفاتها ولم تكن تتصور أن تفقده.

•••

ربما كان حمامة فى نحو الثلاثين عندما التحق بخدمتنا، وفى نحو الخمسين عند مقتله، ولكنى لم أسمع عنه أو منه قط شيئا يدل على وجود أى أثر للنساء فى حياته. لم يتزوج قط، ولا سمعت أن لديه نية أو رغبة فى الزواج. المرة الوحيدة التى صدر منه فيها أى شىء يدل على ذلك، كانت عندما زارتنا مرة فتاة إيطالية جميلة كان واحد من إخوتى قد تعرف عليها فى زيارة لإيطاليا، ووقعت فى غرامه وكانت تتمنى الزواج منه.

زارتنا فى القاهرة لهذا السبب وقضت فى بيتنا ليلة، ولكن أخى أبدى نفورا منها ورغبته فى التخلص منها فى أقصر وقت. عندما رأت والدتى ذلك عبرت عن شعور بالعطف على الفتاة، ثم قالت ضاحكة فى وجود حمامة: «لماذا لا نزوجها لحمامة؟». قال حمامة بجدية تامة: «يا ريت والنبى يا ست!».

•••

مع استمرار تدفق المال فى يدى حمامة، بما يعطيه كل هؤلاء الإخوة وزوجاتهم مقابل عمله فى منازلهم، وقلة ما ينفقه منه، كان لابد أن يتراكم لديه المال دون قصد منه. ولاشك فى أنه كان يضع ما لديه منه فى مكان ما فى بئر السلم بجوار فراشه.

المهم أن شخصا ما، أو مجموعة من الأشخاص، لابد أن تنبهوا لما لابد أن يكون لدى حمامة من مال، ولمكان وجوده. ولاشك أن السارق قد فاجأ حمامة ليلا فى بئر السلم، وأن حمامة قد قاومه، وإلا ما كان السارق فى حاجة إلى تهشيم رأسه، على النحو الذى بلغنى وصفه. ولكننا لم نسمع عن أى إجراء بوليسى اتخذ لمعرفة الجناة وضبطهم، ولا أن أحدا اهتم بمتابعة هذا الأمر بعد وقوعه.

كانت والدتى قد توفيت قبل مقتله ببضع سنوات، ولكنى لا أذكر أن أحدا من أفراد الأسرة قد ذكر اسم حمامة قط، سواء بالمدح أو بالذم، طوال الأربعين عاما التى انقضت منذ وفاته، وكأنه لم يوجد قط شخص بهذا الاسم.

جلال أمين كاتب ومفكر مصري كبير ، وأستاذ مادة الاقتصاد في الجامعة الأمريكية ، من أشهر مؤلفاته : شخصيات لها تاريخ - ماذا حدث للمصريين؟ - عصر التشهير بالعرب والمسلمين - عولمة القهر : الولايات المتحدة والعرب والمسلمون قبل وبعد أحداث سبتمبر.
التعليقات