مهما كانت نتائج مهرجان القاهرة الدولى للمسرح التجريبى التى تعلن مساء اليوم، فإن الأمر المؤكد أن جمهور المهرجان لن ينسى أبدا الليلة الاستثنائية التى شاهد فيها العرض المسرحى (صمت) الذى قدمه المخرج الكويتى سليمان البسام مع الممثلة السورية المبدعة حلا عمران على مسرح الفلكى بالقاهرة وفريق متميز من التقنيين والعازفين.
وعلى الرغم من الصعوبات التى واجهها الجمهور فى الدخول إلى العرض لسوء التنظيم، فإن الجمالية المتميزة التى أبرزها تغفر هذا النوع من الخطايا.
عرض البسام مسرحيته الأولى (مؤتمر هاملت) فى القاهرة عام 2002 وأعلن عن نفسه مخرجا عربيا متميزا يمتلك المعرفة والتقنية العالية الناتجة عن دراسته فى إنجلترا.
وخلال تلك الدورة نال البسام جائزة من المهرجان لأحسن مخرج ومع تقدم تجاربه واستمرارها تعزز تواجده فى مهرجانات العرب والعالم وأصبح رقما صعبا فى المشهد المسرحى فى العالم.
ومن اللافت أن هذا الانتماء للعالم المفتوح عزز أكثر من روابطه مع العالم العربى وقضاياه، ثم جاء العرض الجديد ليبرز هذه الصلة على نحو واضح، فالنص الذى كتبه البسام له طابع مأسوى، إذ تناول فاجعة انفجار مرفأ بيروت فى أغسطس من العام 2020.
وعلى الرغم من اعتماده على وسائل بحث وتوثيق لمخاطر الانفجار وشهادات من خبراء وناجين، إلا أنه استعمل انفجار المرفأ بمثابة غطاء يكشف عن حقل من النفايات البشرية وربما كان قشرة تخفى جرحا غائرا؛ حيث الواقع ملىء بالخذلان وكل صور الهزيمة.
ينتمى العرض إلى عروض المونودراما التى تعتمد على ممثلة واحدة هى حلا عمران وهى ممثلة عرفها الجمهور من خلال بطولتها لفيلم باب الشمس مع المخرج الكبير يسرى نصر الله، إلا أنها تبدو هنا فى حالة توهج كاملة وألق حقيقى ناتج عن وعيها العميق بالمعانى المستبطنة من النص بطبيعته الشعرية المفتوحة على أفق تأويلية متعددة.
فعلت (حلا) كل ما يمكن لممثلة مسرحية أن تفعله، فقد غنت بشجن وغنج ورقصت وتألمت وتأوهت كأنها تبحر فى صهد الرغبة وتحمل أشواك الوجع الإنسانى طوال التاريخ.
يثير العرض بجمالياته المتفردة تساؤلات مهمة حول قدرة المسرح التعبيرى بطابعه التسجيلى على تناول أحداث سياسية تبرز معانى الفجيعة، فقد أنهكتنا العروض الجمالية بتجنبها المخزى طوال سنوات لأسئلة الواقع وتحت ذريعة الجمالية الرفيعة أعطت ظاهرها لمفهوم المسئولية الإبداعية وصارت معلقة فى فضاءات التيه.
ذات مرة قرأت كلمة منسوبة للشاعر والمسرحى الألمانى بريخت يقول فيها: كيف أصف الوردة والدم فى الشوارع؟ ولعل السؤال ذاته شغل سليمان البسام وفريقه ويمثل العرض الجرىء عودة إلى السؤال الذى يتجنبه الجميع حول مسئولية الفنان كفرد ودوره فى صياغة وعى جمالى بشأن معنى المقاومة.
والمثير أكثر أن التحديات التى يواجهها العرض تأتى من مخرج له باع طويل فى مديح التفرد الجمالى، لكنه لم يعط ظهره أبدا لتعقيدات الواقع، فقد استعمل شكسبير طويلا ليسقط أسئلته على أنسجة الاستبداد التى تغلق أبواب الأمل فى عالمنا.
يبدأ العرض بمقدمة من المخرج يشرح فيها رؤيته حول لحظتنا المحاصرة، وتشمل إشاراته الكثير حول حال المدن العربية الكبرى التى أصبحت مدنا معاقبة على نحو ما إلى أن يصل إلى ما يجرى فى غزة معلنا بوضوح أن ما يحدث هناك «حرب إبادة بالبث الحى».
ثم يترك المسرح بعد أن أكد على لعبة كسر الإيهام وفوق منصته الممثلة حلا ومعها عازفون، الأول الآلات الإيقاعية والثانى للبزق وفى تشكيل سينوغرافى بديع وتصميم إضاءة متميز للفرنسى إيريك سواييه الذى يترك على جانبى المسرح صفين من المقاعد الخالية ثم يدعو المخرج الناس إلى الصعود لشغل المقاعد ويتحولون إلى شهود وشركاء فى الفجيعة بالصمت.
تقدم حلا عمران نمطا تصاعديا من الأداء يمتد لنحو الساعة، يبدأ الكريشندو الصاخب فى هذا الأداء بطريقة آلية وسمة بيروقراطية باردة لكنه يتصاعد كاشفا عن تكثيف واختزال مذهل لمعانٍ شعرية عميقة داخل النص الذى يكشف عن وجه جديد لسليمان البسام وهو وجه الشاعر المعاصر القادم من معرفة واعية بدراما شكسبير التى تعرى النفس البشرية لكن البسام يرغب فى تعرية الجميع ويقدم تركيبة مذهلة من المراجعات والشك، تمتد من الذات إلى العالم وتستدعى انكسار التجارب الثورية التى حلمت بالنهوض لذلك يهبط أداء حلا استجابة لهذا الخذلان الذى يمكن تلمس أسبابه فى الأغنيات الحزينة التى ترافق أكثر من هزيمة.
يبدو النص فى طابعه الشعرى أقرب إلى النصوص الشعرية الغاضبة التى تتمتع بجماليات خاصة مثل عواء للشاعر ألن جنسبرج وربما نصوص محمد الماغوط فى تلاعبها بمعانى المفارقة والأسى ودراما الفجيعة والغياب
تنجح حلا ابنة الشاعر السورى الكبير محمد عمران فى نقل هذه الرهافة المتضمنة فى النص بفضل وعيها بسلامة اللغة من جانب وحساسيتها البالغة فى السيطرة على طاقتها الانفعالية، فلا شىء منها زائد عن الحاجة، ولا مجال لأى ثرثرة انفعالية تأخذ النص إلى معنى المباشرة التى نجح تماما فى تجنبها، فما نراه هو مزيج من مواد كثيرة صاغها المخرج لينتهى بالمشاهد إلى معاينة الخراب الذى يقودنا إلى الصمت الذى أراد العرض كشف أثمانه الفادحة.