زرت الأسبوع الماضى عددا من مراكز الأرياف فى شمال الدلتا، من البرلس والحامول شرقا إلى سيدى سالم ودسوق غربا. الفارق كبير للغاية بين ما تتمتع به مدينة كفر الشيخ من تطوير عمرانى وبين ما زالت تعيشه من مستوى درجة ثالثة مدن مثل الحامول وسيدى سالم.
ولست أنوى فى هذا المقال أن أتناول الفوارق العمرانية فى المدن والحواضر بقدر ما أسعى إلى تسجيل بعض المشاهدات عن الأرياف.
لقد تأثر الجغرافيون المصريون بالتبعية للمدارس الغربية التى رأت أن الجغرافيا الحديثة هى جغرافية المدينة وأن كل شىء فى الصراع السياسى والاجتماعى والطبقى والتطور التقنى والتجارى والأسواق يمكن أن نجده فقط فى المدينة.
ومضى الجغرافيون المصريون على خطى الجغرافيين الأجانب فى ربط التطورات الجغرافية بالتطورات فى الحواضر والعواصم والمدن.
لقد وصلت الدرجة بواحد من الجغرافيين الأجانب إلى القول إنه لا توجد جغرافيا إلا فى المدينة وأن الأرياف ليست إلا نغمة بطيئة متشابهة رتيبة لا فوارق بينها، تدعو إلى النعاس والهدوء وجماليات الطبيعة ولا تشغلنا بالثورة والتطور والتنمية.
ويبدو أن ذلك المفهوم ترسخ فى عقول الإداريين المصريين منذ زمن الإقطاع الذى وضع الريف فى فئة الحقل الزراعى الساذج الذى لا تطور فيه.
ولعل رائعة عبد الرحمن الشرقاوى «الأرض» التى حولها يوسف شاهين إلى فيلم رائع آخر بنفس العنوان مثال لتصوير الريف المصرى بهذه السذاجة الغرائبية التى تضعه فى حكايات ألف ليلة وليلة متخلفا عن التاريخ: امرأتان تتصارعان على روث بهيمة طمعا فى الفوز بوقود للفرن، فلاح جاهل يمارس الجنس مع الحيوان، فتاة بالغة تتحرش جنسيا بصبى صغير طمعا فى عملة فضية، هجَّانة من البدو الغلاظ أتوا من جنوب مصر يضربون بسياطهم ظهور الفلاحين... إلخ.
ورغم أننا استوردنا من الاتحاد السوفيتى شعار «عمال وفلاحين» فى المفاهيم السياسية والثورية بعد 1952 إلا أننا لم نشهد حضورا للنقابات الزراعية أو العمل الفلاحى بالدرجة التى تعبر عن الأغلبية الساحقة من الشعب المرتبط بالأرض الزراعية.
وقد أصيب الصعيد بخيبة كبرى حين تعمق التفاوت الذى لا يصدقه عقل بين مدينة القاهرة التى أخذت تنمو وتصبح مدينة الأحلام وبقية محافظات الوادى الزراعى الذى ظل يتراجع وينزوى من دون فرص عمل تطورية تحفظ سكانه من الهجرة إلى القاهرة.
حالة الريف فى كفر الشيخ (شمال الدلتا) مختلفة عن حالتها فى الصعيد.
فهنا تم اختراع عاصمة إقليمية من مجموعة بلدات وقرى تحمل اليوم مسمى «مدينة كفر الشيخ» لتأخذا مكانا جديدا فى شمال الدلتا بعد أن عجزت «طنطا» عن الوفاء بكل التزاماتها تجاه هذه المساحة الشاسعة.
ولعبت جامعة كفر الشيخ الحديثة الدور الأكبر فى تنمية عاصمة المحافظة لأنها أصبحت قطبا جاذبا لأبناء المراكز المختلفة طلبا للحصول على شهادة جامعية.
إن مقارنة الحالة العمرانية لمدينة مثل كفر الشيخ من ناحية ومدينة مثل سيدى سالم أو الحامول من ناحية ثانية تدعو على الحزن.
فالوقت الفاصل بينهما بسيارة الأجرة أقل من ساعة لكن الفارق المعمارى بينهما 100 سنة.
كفر الشيخ تقلد أحياء القاهرة المركزية من الخدمات التجارية والمطاعم والكافيهات من كل لون.
تتوسع مدينة كفر الشيخ بكل ثقة ــ وتجبر ــ على الأرض الزراعية المحيطة بها وتلتهم ما كان جيوبا ريفية منتجة من قبل.
أعود إلى جغرافية الأرياف التى ظلُمت فى جغرافية مصر الحديثة لأقول إن المشهد الطبيعى فى هذه الجغرافيا كان يتألف عادة من خمسة عناصر للجمال والنظافة:
فرع من فروع النيل التى كانت سبعة إلى تسعة أفرع وانتهت إلى فرعين فقط هما دمياط ورشيد. وقد حلت محلهما منذ ألفى سنة قنوات اصطناعية حفرها الفلاح المصرى فى مواضع الفروع القديمة وكان كل منها يمثل صورة مصغرة للنيل المتدفق بالمياه والطمى قاصدا الوصول إلى مصابه فى البحر المتوسط أو فى البحيرات الشمالية.
حقول زراعية تلمع بخضرتها (فى موسم النمو) أو بلونها الذهبى (وقت الحصاد). ولأن المياه هنا وفيرة والأرض مستوية فقد نجح محصول الأرز نجاحا باهرا حتى عرفت المنطقة بـ «بلاد الأرز».
مساكن للفلاحين من طوب لبن تحول إلى طوب صلب بمرور الزمن. وقد قامت هذه المساكن قبل 5000 سنة فوق الأكوام العالية الجافة فى قلب الأرض الزراعية لتصبح فى حماية من الفيضان وبعيدا عن المستنفعات والطين.
وحين يأتى علماء الآثار ليبحثوا عن تاريخ مصر القديم يذهبون إلى ما بقى من هذه الاكوام والتلال الرملية والطينية القديمة (وتسمى اصطلاحا لشكلها القبوى بـ «ظهور السلاحف»). وعلى واحدة من هذه الأكوام قامت عاصمة الدلتا الموجدة قبل آلاف السنين وتعرف باسم «إبطو»، (فى مركز دسوق بكفر الشيخ حاليا) وتسمى هذه العاصمة اليوم باسم «تل الفراعين» أو كوم الفراعين، نسبة إلى التماثيل والآثار المدهشة التى عثر عليها فى المنطقة.
ثروة حيوانية طبيعية ومراع وطيور مهاجرة وثروة سمكية فى كل من البحيرات وفروع النيل والترع والقنوات.
غابات صغيرة من الأشجار حول البحيرات فيما يشبه الأحراش أو صفوف متراصة من أقوى الأشجار وأكثرها ظلا على جانبى القنوات المائية.
كانت صورة الريف فى شمال الدلتا جنوب بحيرة البرلس نموذجا لبقية أراضى الدلتا فى الشرق (بحيرة المنزلة) وفى الغرب (بحيرتا إدكو ومريوط).
وهذه الجغرافيا هى جغرافيا مصرية خالصة، حملت فى بعض الأحيان مسمى «البرارى» المصرية.
عرفت زميلا فى الجامعة قبل ربع قرن (عليه رحمة الله) كان اسم عائلته «البراوى».
ولجهلى نطقت اسم عائلته أول مرة خطأ حين رأيته فى هويته الشخصية بكسر الباء «البــــِراوى».
بكل تسامح، صحح لى زميلى النطق بأن الباء مفتوحة، وهذا فارق كبير بين السماء والأرض!
فالبراوى بباء مكسورة كلمة شعبية تعنى شخصا أنانيا لا خير فيه لأهله، أما البراوى بفتح الباء فهى نسبة إلى البرارى فى شمال الدلتا.
كان زميلى من محافظة البحيرة من أطراف بحيرة إدكو وغير بعيد عن رشيد.
يخبرنا أستاذنا الراحل عمر الفاروق السيد رجب فى كتابه عن جغرافية «البرارى» أن كلمة البراوى ظهرت فى الخطط التوفيقية فى وصف بعض سكان هذه المنطقة من الصيادين الذين يعيشون فى البرارى بعيدا عن الناس فى عشة معزولة.
ويبدو أن أستاذنا الجليل عمر الفاروق عاد إلى الخطط التوفيقية التى ألفها على باشا مبارك فى نهاية القرن التاسع عشر بينما القصة الأصلية مذكورة فى موسوعة وصف مصر فى الحملة الفرنسية التى عاد إليها على باشا مبارك.
كانت جغرافية الأرياف فى مصر غنية ومتنوعة وبها خصوصية البرارى المصرية من نظام إيكولوجى (بيئى طبيعى) وتفاعل بين الإنسان وعناصر البيئة.
وقد بقيت هذه الصورة آلاف السنين حتى ستينيات وسبعينيات القرن العشرين ومعها يبدأ التغير الكبير فى جغرافية الأرياف فى شمال الدلتا.
أول ما تغير هو تجفيف مساحة البحيرات والمستنقعات والسياحات والبرك والأراضى البور من البوص والهيش، من أجل الاستصلاح الزراعى تلبية للأعداد المتزايدة من السكان لمواكبة القفزة الكبيرة فى سكان مصر التى عرفت بمرحلة الانفجار السكنى.
شمل التغير أيضا تفشى ظاهرة المزارع السمكية.
واكب ذلك أيضا إنشاء السد العالى وضعف وصول المياه إلى البحيرات والانتقال إلى الاعتماد على مياه الصرف الزراعى فى بيئة البحيرات الشمالية من زراعة وصيد.
أما أكبر عناصر الإهمال التى أصابت جغرافية الريف فى صميم فؤاده فهو إهماله من حيث النظافة واستيعاب مخلفات القرى والبلدات من صرف صحى ومخلفات صلبة.
لا نريد أن نصدق الشواهد التى تقول إن الفلاح المصرى فى الريف كسول وقدرى وضعيف العزم فى مسألة النظافة، ولا يؤمن بالعمل الجماعى فى التعاون من أجل التخلص من هذه الأخطار بطريقة إبداعية وهو ابن حضارة آلاف السنين.