جَــــوْلَة - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 8:25 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

جَــــوْلَة

نشر فى : الجمعة 10 ديسمبر 2021 - 10:15 م | آخر تحديث : الجمعة 10 ديسمبر 2021 - 10:15 م

 

في زيارةٍ لأسوان قبل سنوات؛ اتفقت المجموعةُ الصغيرةُ التي كنت ضمن أفرادها على الاجتهاد في زيارةِ أقصى ما يتسع له الوقتُ مِن مَعالم وأمكنة، خاصة تلك التي نادرًا ما يؤمُها الناسُ؛ إما لبُعد موقعها أو لمشقَّة التنقُّل بينها. قاد الجولةَ السياحية مُرشِد شابٌ، شغوف؛ والشغفُ في العملِ شحيح، خفيفُ الظلّ؛ لا ينفكّ يلقي النكاتِ ويبرع في القفشاتِ ويضحك؛ ولو كانت مما يستدر البكاء.
•••
أفرزت الجولةُ علاقاتٍ تجدَّدت وروابطَ توثَّقت، وصلاتٍ نشأت بين أشخاصٍ لم يكُن أحدهم يهتم للآخر أو حتى يُطيق قُربَه، فعادة الجولاتِ الثقافيةِ والترفيهيةِ ألا تحلو وتكتمل مسراتُها؛ إلا في جمعٍ، يحظى أعضاؤُه بقدرٍ من التوافُق وبعضِ الود، وقد شاء الحظُّ أن يخلقَ طبعُ المكانِ بين الناسِ شيئًا مِن التباسُط والائتناس.
•••
الجولةُ في معاجم اللغة العربية هي الزيارة، وهي مصدر واسم مرة من الفعل جَال أي؛ طاف، وفاعلها جائل، فإذا قيل الباعةُ الجائلون، كان المقصود هؤلاء الذين لا مكان ثابت يضُمُّ بضائعَهم، ولا محلَّ دائم يمكن العثور عليهم فيه؛ إنما يُجرِّبون حظوظَهم هنا وهناك، وأما الجوَّال فصيغة مبالغة تصِفُ شخصًا كثيرَ التحرُّك؛ لا يمكُث في مَوقِع ولا يستقر، ومنه جاء مُصطلحُ ”الجوالة"؛ وهو رتبةٌ من رُتب فِرَق الكشافةِ التي تجوبُ الأرجاءَ، وتنظم رحلاتِ الخلاءِ وتميل إلى المغامرة.
•••
كثيرًا ما تستخدم وسائلُ الإعلام تعبيرَ "جولة تفقدية" لتشير إلى زيارةٍ خاصة؛ يستطلع القائمُ بها سيرَ العمل وقدرَ الإنجاز وحَجمَ الانضباط. يتابع ما صنع الآخرون ليُقيمه ويبدي الرأيَ بشأنه، فإما رضاء وسرور أو توبيخ قد يليه عقاب. ثمَّة جولاتٌ رسميةٌ، يقوم بها الرؤساءُ ومَبعوثوهم، ومَن لهم في الدولةِ مناصبُ تمنحهم استقبالًا خاصًا، مُحاطًا بالمراسِم والتقاليد المعلومةِ، مُزدانًا بعلاماتِ الاحتفاء والتقدير. لا يهم كثيرًا ما يدور في الجولة حاضرًا، ولا ما سينشأ عنها لاحقًا، إنما هي القواعد تسري في الأحوال كافة، يقتضيها العرفُ وتحميها علاقاتٌ مُتشعّبة ومصالح.
•••
إذا ذُكِرَت كلمةُ ”جَوْلةُ“، جاب الخاطرَ ما اقترن بها على مَرِّ التاريخ من مُحادثات ومُباحثات؛ وما أغزر ما دارت في عالمِ السياسةِ جولاتٌ شاقةٌ مُرهِقة، وما أكثر ما خابت إزاء قضايا حُكمها واضح جليٌّ. لا ينفك المرءُ يأسى لما آلت إليه قضيةُ الأرضِ المُحتلة؛ التي طال بها الزمنُ ولم يزل أصحابُها مغبونين، ولم تفتأ المناوشاتُ تجري، والتعبيراتُ الشاجبةُ تُصاغ، والمُستوطناتُ تدكُّ المزارعَ وتخلع الجرافاتُ الأشجار. جولةٌ وراء جولةٍ، موائد ومفاوضات، وخسائر بالجُملة.
•••
إذا قال الناسُ عن فلان إنه صالَ وجال؛ فالمعنى أنه مقدامٌ شجاعٌ، والحقُّ أن عالمَنا يحظى اليومَ بجَولاتٍ كثيرةٍ وصَولاتٍ أقلّ؛ تُسمَع فيه جعجعةٌ ولا يُرى فعيلُ النصالِ، يَرجُّه الضجيجُ ولا تُملأ جِعابُه بالطحين.
•••
تنتهي الجولةُ في غالب الألعابِ القتاليةِ بزمَنٍ مَوقوت، تُحتَسَب عنده النقاطُ، أو ربما تحطُّ الضربةُ القاضيةُ فتأتي على الخَصمِ، وتُسدِل على المُباراة الستارَ؛ فيما لم تزل لجولاتها بقية. بعضُ اللاعبين ينسحب مع الإصابة، وبعض آخر يستسلم خشية هزيمة ثقيلة، وهناك من يقاتل حتى اللحظات الأخيرة.
•••
ثمَّة جولاتٌ مُدبَّرة، مَعلومة البدايةِ والنهاية، مُحدَّدة المسار، وثمَّة جولةٌ حرَّةٌ يمضي فيها المرءُ دون خطة مُسبقة؛ فيترك قدميه لتقودا المَسير، وتتجهان به كيفما اتفق. عن نفسي، طالما فضَّلت هذا النوع من الجولات، فإذا كنت وسط مجموعةٍ كبيرة، وكانت الجولةُ مُعدَّة للفُرجة على مزاراتٍ بعينها، راق لي أن أنسلَّ بهدوء، فأمضي نحو ما يجذب انتباهي وأفكاري. أوقن أنني سأحقق متعةً أكبر ما تجاهلت الخطوطَ التي توضع ليقتفيها الجمع، وأن سلوكَ الطرقِ المُعبَّدة سلفًا، المَطوية كورقةٍ محفوظة؛ لا يُسفر أغلب الأحوال عن فائدةٍ ولا يأتي بجديد.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات