نشر موقع 180 مقالا للكاتب عقيل سعيد محفوظ، يحلل فيه حرب السابع من أكتوبر من منظور نفسى بالاستناد إلى نظريات العالم النفسى سيجموند فرويد حول الحرب والعنف. أولا، يرى الكاتب أن حرب 7 أكتوبر شكلت صدمة نفسية للغرور الإسرائيلى، لذا جاء رد الفعل الصهيونى مدفوعا بغريزة الانتقام غير مكترث بالتداعيات السلبية لهذه الضربات التدميرية وما نتج عنها من استشهاد وتشريد آلاف الفلسطينيين. ثانيا، يقول الكاتب إن لهذه الصدمة تأثيرا إيجابيا أيضا يتمثل فى إظهار مقدرة الجانب الفلسطينى الكبيرة فى تكتيكات الحرب النفسية وحروب الصور والمعلومات، وكذلك كشف هشاشة المؤسسات العسكرية والأمنية الإسرائيلية... نعرض من المقال ما يلى:لو أن سيجموند فرويد بيننا وقرأ حرب غزة، لربما وجدها مناسبة لتأكيد آرائه حول العنف والحرب والموت إلخ.. بوصفها ظواهر ملازمة لوجود الإنسان. ولا نعلم ما يكون موقفه مما يجرى فى غزة وفلسطين. لكن هذا لا يمنع أن تكون أفكار التحليل النفسى مفيدة فى قراءة وتحليل الحرب.
يقول الكاتب إن حدث غزة أظهر سيولة كبيرة فى استعمال تعابير وتسميات ومفاهيم مثل: العنف، القتل، الصدمة، الوعى، اللاوعى، المقاومة، الانتقام، الإذلال، الوهم، غريزة القتل، الحرب النفسية، حروب الصور والمعلومات، وحروب السرديات، إلخ... وجميعها تقريبا لها أبعاد سيكولوجية.
ويضيف الكاتب أن كل الأطراف تتوسل علوم النفس والتحليل النفسى، قلْ: الحرب النفسية فى التجاذبات والمنافسات والمواجهات فى عالم اليوم. لعل العامل الأهم فى حرب غزة، هو العامل النفسى، وقوة الحدث ابتداء هى فى هذا الباب خاصة، إذ إن مجرد التفكير والإعداد، وبالطبع التنفيذ، ينطوى على تغيُّر فى الرؤية والقدرة والاستعداد والإقدام من جانب الفلسطينيين حيال إسرائيل.
وكان العالم مندهشا، غير مصدق ما حصل فى 7 أكتوبر 2023! ومع مرور أكثر من أربعة أشهر على حرب غزة، أظهرت المقاومة الفلسطينية مقدرة كبيرة فى تكتيكات الحرب النفسية وحروب الصور والمعلومات، بما فى ذلك محاولة التأثير فى الرأى العام داخل إسرائيل نفسها.
ولا شك أن الحدث أدى ــ بفعل ذلك ــ إلى تحول مهم فى اتجاهات الرأى العام فى العالم حول قضية فلسطين. ولو أن أكثر الكلام فى هذا المقال، هو فى مقاربة نفسية لما حدث لإسرائيل، وكيف كانت استجابتها حيال الحدث والحرب التى تلته. ولنا عودة إلى مقاربة الحدث والاستجابة الفلسطينية حياله فى مناسبة أخرى.
يقول فرويد فى كتابه «أفكار لأزمنة الحرب والموت»: «عندما يتم تحريض البشر على الحرب مثلا، قد يكون لديهم عدد كبير من الدوافع للتصديق.. ولكن شهوة التدمير دائما ضرورية لاكتمال الفعل». ولا شك أن لكل طرف من طرفى الحرب المباشرين، كتلة اجتماعية وسياسية تدعمه بقوة، وتُمَثِّلُ مدارك ورهانات كل منهما النقيض التام تقريبا لمدارك ورهانات الآخر، ذلك أن الحدث تعبير عن حرب مدارك ورهانات، ليس من السهل تصور نهاية قريبة له.
• • •
مَثَّلَ حدثُ غزة فعلا صادما وغير متوقع. إذ لم يتخيل الإسرائيليون ــ ولا الفلسطينيون أنفسهم ــ أن يحدث ما حدث، على الأقل بالكيفية التى حدث بها، قبل أن تنزلق الأمور إلى مواجهات غير مسبوقة فى تاريخ الصراع مع إسرائيل. لعل أول ما يفيدنا فرويد فيه هو وصف الحدث بـ«الصدمة». والصدمة لا تقتصر على الفعل المحض، أى الهجوم الذى قامت به المقاومة ضد المواقع والمستوطنات الإسرائيلية فى محيط غزة بتاريخ 7 أكتوبر 2023، وإنما الأثر النفسى والسياسى والاجتماعى والأمنى والعسكرى والإعلامى والثقافى الذى أحدثه، ثم فى التداعيات والتداخلات التى أعقبته، والوضع بالغ التعقيد الذى هو عليه اليوم.
أدى الحدث/الصدمة إلى: تحريك أو إطلاق «ديناميات دفاع مرضية» لدى الإسرائيليين، بمعنى أن ردة فعلهم لم تكن موزونة بميزان التعقل والتحسب والتقدير، بقدر كونها مدفوعة بالرغبة فى الدفاع الغريزى والإنتقام.
ليس مجرد الرد، وإنما إظهار التفوق والقوة، والرغبة فى سحق الخصم بالمعنى السياسى والاجتماعى والعسكرى والأمنى، وما يحدث هو شكل من أشكال الإبادة المعروفة والموصوفة فى الأدبيات الدولية.
ردود فعل هى تعبير عن استيهامات وتمثلات حول قوة إسرائيل، أكثر منها اعتبارات الواقع وطبيعة الخصم، وردود الفعل الإقليمية والدولية حيال الحرب ضد غزة وفلسطين، من حيث النوع والدرجة.
يبدو أن إسرائيل ــ من منظور فواعل السياسة فيها ــ بحاجة لإستعادة صورتها عن نفسها، فى الداخل والخارج، بأنها الكيان الذى لا يُقهر، والذى أعد نفسه لمواجهة الإقليم ككل. وهى بحاجة لاستعادة صورة العالم عنها، بأنها بلد الأمن والاستقرار والديموقراطية فى محيط غير آمن وغير مستقر وغير ديموقراطى. وأنها بلد يواجه ــ من منظوره ــ إرهابيين وليس مقاومين وأصحاب حق. وكلما واصلت السعى لتحقيق هذا الهدف بالقتل والتدمير، كلما ابتعدت عنه.
• • •
هكذا، هَشَّمَ حدثُ 7 أكتوبر 2023 والمقاومة التى تلته حالة النرجسية أو الأنوية والتمركز الفائق حول الذات لدى إسرائيل، والشعور بالتفوق، واستحالة أن يقوم طرف ما بفعل يمكن أن يُهدّدها «فى الداخل»، والفاعل ليس أى طرف، هو حركة مقاومة؛ وليس من أى مكان، بل هو من قطاع غزة المحاصر؛ وليس من خارج حدودها وجدرانها ومناطقها العازلة، بل عبرها، وصولا إلى الداخل.
يتحدث فرويد عن تحول غريزة الموت والخوف: من الموت إلى «الغريزة التدميرية»، ومن الداخل إلى الخارج. (فرويد، «أفكار لأزمنة الحرب والموت»، ص 54). وهذا على أية حال، ما تحاوله إسرائيل، وليس أكثر من الحرب ضد غزة والضفة فرصة لتحويل الأزمات الاجتماعية والسياسية فى إسرائيل إلى أزمات مع غزة أو لبنان أو سوريا أو غيرها. وأن رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو يريد إطالة أمد الحرب على غزة من جهة، وتوسيعها نحو لبنان من جخهة ثانية، عَلَّ ذلك يفيده فى تَدَبُّر مخارج لأزمات تواجه حكومته، وتواجهه هو بالذات.
• • •
عودة إلى المقاربة الفرويدية، قد يكون للصدمة تأثير إيجابى، فى حال استثارت الوعى ودفعت للتغير، لكن يمكن أن يكون العكس، فى حال كان الحدث/الصدمة فوق القدرة على الاحتمال، وبالتالى يكون له مفعول عكسى، فيطلق ديناميات دفاع مرضية، كما سبقت الإشارة، وليس سوية.
لم تتمكن إسرائيل من أن تقرأ بواقعية حدثا صادما وعميقا وغير مسبوق ولا متوقعا، كشف هشاشة المؤسسة العسكرية والأمنية، وبالطبع السياسية، وضعف الاستعدادات والاستجابات، واختلالا كبيرا فى تدبير الموقف سواء مع الداخل أو الخارج، وبالطبع مع غزة نفسها.
واضح أن الحدث صدم غرور الإسرائيليين، وسبّب جروحا عميقة من الصعب إبراؤها. وليس ثمة وصفة ممكنة تكافئ أو تعادل ما حدث. لذا، يحاول الإسرائيليون التعويض عن الصدمة بالتدمير الوحشى وقتل عشرات الآلاف وتهجير مئات الآلاف من الفلسطينيين، إلا أن الأمور أتت وتأتى ــ حتى الآن ــ بنتائج عكسية.. ومن المرجح أن يبقى فرويد حاضرا فى مقاربات الصراع لزمن طويل.
النص الأصلى