لغز قطر.. معنى النموذج وحدوده - ياسر علوي - بوابة الشروق
الأربعاء 15 مايو 2024 3:17 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

لغز قطر.. معنى النموذج وحدوده

نشر فى : الأحد 12 أبريل 2009 - 6:01 م | آخر تحديث : الأحد 12 أبريل 2009 - 6:01 م

 على مدى ما يقرب من عقد ونصف العقد، مثلت السياسة القطرية لغزا حقيقيا فى النظام السياسى العربى. فنحن بإزاء حالة شديدة الصخب، يزيد من صخبها ولا شك امتلاكها أكثر وسائل الإعلام العربية مشاهدة، وهى قناة الجزيرة التى يمكن ــ بل ويجب ــ النقاش حول أسلوبها ومضمون مادتها الإخبارية، ولكن يصعب الجدال فى حجم تأثيرها. المهم، أن المسألة ليست مجرد حالة إعلامية صاخبة، وإنما وضع سياسى لا يقل صخبا.

بدا هذا الوضع السياسى قبل نحو عشر سنوات على أقصى التطرف فى التطبيع مع إسرائيل. المكتب الإسرائيلى التجارى فى قطر افتتح عام 1996 «نفس عام وصول بنيامين نتنياهو للسلطة». فى العام التالى مباشرة، وعلى إثر السياسات اليمينية المتطرفة التى انتهجتها الحكومة الإسرائيلية، قررت الدورة رقم 107 لمجلس جامعة الدول العربية فى أبريل 1997 تجميد «التطبيع الاقتصادى» مع إسرائيل، غير أن مؤتمر الشرق الأوسط وشمال أفريقيا عقد دورته بشكل طبيعى بعد أشهر فى الدوحة. الذريعة آنذاك تمثلت فى التصريح الشهير حول ضعف العرب الذى ينبغى عليهم معه «أن يتوسلوا حقوقهم»!

بعد أكثر قليلا من عقد، ولكن فى ظل نفس تركيبة الحكم، طرحت الدوحة كمقر لقمة «صقور العرب والمسلمين» أثناء العدوان الإسرائيلى على غزة، وقامت بــ«تجميد» نشاط المكتب التجارى الإسرائيلى بها «وليس إغلاقه» لحين تحسن الأحوال.

وإن انتقلنا من مستوى الصراع العربى ــ الإسرائيلى إلى مستوى العلاقات بين الدول العربية، نجد نفس المراوحة بين لعب دور الوسيط الذى يشترط لنجاحه علاقات جيدة مع الجميع نتيجة خروجه على محاور الاستقطاب الرئيسية «مساعى الوساطة فى السودان، ولبنان، وأحيانا فى العراق، وفى غيرها»، إلى الطرف المنغمس تماما فى لعبة الاستقطاب والتراشق الإعلامى والسياسى «مثال: ما كان يفترض أن يكون قمة عربية طارئة فى الدوحة، وتحول بعد عدم اكتمال النصاب إلى ما سمى بقمة غزة». هذا التناقض المستمر فى الأدوار، يطرح بقوة مسألة ما إذا كانت فكرة الدور نفسها هى الهدف، بصرف النظر عن مضمونه. ولعله أبرز مظاهر «الحالة الصاخبة» التى نتحدث عنها.

على كل، فإن هذه «الحالة الصاخبة» نجحت فى إثارة الاهتمام، بين معجبين بما اعتبر «حيوية سياسية» دافقة ومبشرين بهذا النموذج لدى قوى أخرى يفترض أن يكون باعها أطول فى السياسة الإقليمية والدولية، أو مستاءين من مضمون هذا الدور «فى صيغته الأحدث» ومفكرين فى الاستراتيجية الأنسب للاشتباك معه.

على تناقضهما، يشترك الموقفان السابقان «الإعجاب والاستياء» فى نفس نقطة الانطلاق، وهى المبالغة الكبيرة فى نجاح النموذج القطرى. ففى أغلب الحالات السابقة، كان الصخب لا الإنجاز هو معيار النجاح. أكثر من ذلك، فمنذ تأسست مؤسسة القمة العربية عام 1964، لم يحدث أن دعت أى دولة عربية لقمتين طارئتين فى أقل من ثلاثة أسابيع، وفشلت فى الحالتين فى تأمين نصاب الانعقاد، بل اضطرت لحضور قمة عربية أخرى، فى نفس الفترة استضافتها دولة عربية «الكويت» كانت من بين الدول التى لم تلب الدعوة لقمتى الدوحة. فى الوساطة، هناك حالة واحدة على الأقل «السودان» لم تؤت ثمارا تذكر، وأخرى «لبنان» كان نجاحها ضمن صفقة إقليمية ودولية واسعة يصعب أن ينسب الفضل فيها لأى طرف بمفرده، ومن ثم ليست مؤشرا جيدا للقياس.

المسألة هنا تحتاج لوقفة أعمق، لاستكشاف أبعاد «النموذج القطرى»، ومكامن قوته، وحدود قدرته على الإنجاز فى نفس الوقت، قبل حسم أى قرار بالتبشير بهذا النموذج، أو التخطيط للاشتباك معه.

وبالإمكان القول إن أهم خصائص «النموذج القطرى» التواجد بالمعنى السياسى لا الجغرافى، على خط تماس دولى وإقليمى ملتهب. فلا يمكن تصور الدور الصاخب الذى قامت به قطر فى كل تجلياته المختلفة والمتناقضة بدون شبكة الصلات المعقدة مع فرقاء دوليين وإقليميين من الولايات المتحدة التى تستضيف قطر قاعدتها العسكرية الأهم فى المنطقة، قاعدة «العديد»، إلى «أصدقائها الأعداء» إيران وإسرائيل، والدول العربية، والدول الأوروبية.

وللإنصاف، فإن قطر لم تبتدع هذه الصيغة «الدور المستفيد من الوقوع على خط اشتباك إقليمى ودولى»، وإنما سبقها فى المنطقة على مدار الخمسين عاما الماضية الفرقاء المتصارعون فى شطرى اليمن (وداخل كل من الشطرين) فى الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين، وفرقاء الحروب الأهلية من لبنان إلى العراق. غير أن النموذج القطرى تفوق على هذه السوابق من زاويتين أساسيتين، هما: الوفرة المالية الاستثنائية، التى تتيح إمكانات لترجمة الفرص التى يتيحها التواجد على خطوط التماس إلى أدوار صاخبة وحاضرة إعلاميا وسياسيا، ووجود مركز واحد لصنع القرار بلا منازع، وليس مجموعات من الفرقاء المحليين المتصارعين الذين يبددون بصراعاتهم إمكانات الاستفادة من فرص المناورة مع اللاعبين الكبار على جانبى «خطوط التماس»، أو فى أفضل الأحوال يختزلونها فى مزايا محلية لزعماء المناطق والأحياء. الوفرة المالية، والمركز المسيطر بلا منازع على القرار هما اللذان أتاحا هذه الفرصة الأفضل للحالة القطرية للاستفادة من إمكانات المناورة على «خط التماس».

غير أن هذا النموذج «اللاعب على خط التماس الدولى والإقليمى» يحمل فى طياته بذور ضعفه، والتى تجلت أكثر من مرة فى الحالة القطرية كما أسلفنا، وتتمثل فى شرط أساسى لا يمكنه الحياة بدونه: فاستثمار خط التماس، فى دور صاخب متعدد أو متناقض المضامين ممكن فقط فى لحظات التحول الكبرى فى موازين القوى، والتى تفتح فيها الصراعات على جوانب خطوط التماس لتحديد الأنصبة واستقطاع مناطق النفوذ. غير أنه متى استقرت موازين القوى ومناطق النفوذ، وقواعد اللعبة بين اللاعبين الكبار الإقليميين والدوليين، وامتدت خطوط التفاهمات والاتصالات المباشرة بينهم، ينكمش فورا حيز المناورة لأى لاعب صغير مستقر على خط التماس، خاصة إذا كان دوره مقتصرا على «المناورة فى كل اتجاه على خط التماس» وليس على فكرة كبرى أو أيديولوجية تمثل بجاذبيتها الرصيد الأكبر والضمانة الأبقى لاستمرار الدور فى مرحلة ما بعد استقرار موازين القوى. لم يكن من قبيل الصدفة إذن أن يبرز هذا «الدور الصاخب» فى مراحل قلقة فى تاريخ المنطقة، بصرف النظر عن مبعث هذا القلق، أكان الزحف غير المقدس لـ«الشرق أوسطية» فى النصف الثانى من التسعينيات، أو مناخ السيولة الدولية والاستقطاب السياسى الحاد فى مطلع القرن الحادى والعشرين. فى الحالتين، كيف النموذج نفسه وفق ضرورات المناورة على خطوط التماس، وأشبع «هاجس التواجد» بمضامين متناقضة حسب مقتضى الحال.

المغزى المزدوج لذلك، هو أن الإعجاب المفرط «بالنموذج القطرى الصاخب» ليس سوى إعجاب «بعرض» مؤقت، والتبشير به يتجاهل شروطه التاريخية المرتبطة بالضرورة بأوضاع دولية وإقليمية مؤقتة. أما الاشتباك الحاد معه، فلا يقل خطأ، إذ إنه اشتباك مع «عرض» لمرض أعمق هو الاختلال فى موازين القوى فى لحظات التحول الأساسية فى النظامين الإقليمى والدولى. والمنطق الصحيح يقتضى أن يكون الاشتباك مع «المرض» «ميزان القوى المتغير، واستغلال لحظات التحول لتحسين المواقع وفرض مناطق النفوذ، ومعالجة الاختلالات الأساسية» بدلا من إضاعة الوقت مع «العرض». هذه بديهية من بديهيات عالم الطب والعلاج، هى لا تقل بداهة ولا وجاهة فى عالم السياسة والصراع.

ياسر علوي  كاتب وأكاديمي مصري
التعليقات