تتكرر العملية، وفى كل مرة نستيقظ على من يقول: «من أين جاء كل هذا الحقد، أو الطائفية، أو المناطقية، أو العشائرية، ونحن كنا نعيش فى أمان؟» وكأنها وليدة اللحظة، وكأننا اكتشفناها الآن، وكأنها لم تعشّش فى تفاصيل حياتنا حتى أصبحت جزءًا منها، ومن العبارات والأوصاف التى نستخدمها باستسهال. ولا يختلف فى ذلك المتعلّم، حامل الشهادات - حتى العُليا منها - عن الأمى.
• • •
ونستمر فى الاستغراب، وطرح الأسئلة المتأخرة أحيانًا، أو التى يبدو أنها تحولت إلى جزء من تركيبة بُنِيَت على مرّ سنين، إن لم يكن عقودًا. فالعصبية التى تتوارى خلف تعابير مثل «الطائفة الكريمة الأخرى»، أو «الإخوة من الطائفة…»، أو كل تعبير يُغلف بتوصيف محبّب، وكأنه، دون إدراك أو وعى، يحاول إخفاء ما بداخله / بداخلها / بداخلهم. طبقات فى النفس تتراكم، وهى ليست بالأمر الجديد، الذى يجعلنا، عندما استيقظنا ولا نزال، على وجع السويداء وكل سوريا، نردد: ما الذى حدث؟؟ كيف يتقاتل الإخوة؟ بل كيف يقوم الأخ، فى الوطن ربما، بإهانة وتعذيب وقتل أخيه فى نفس الوطن أيضًا؟؟ ونبقى عند عجزنا، نردّد: إنها المؤامرة، أو ربما الاستعمار، أو آخرون يكثرون من حفر الشر فى أوطاننا لإعادة تقسيمها، رغم تفتتها المستمر!!!
• • •
ربما من المفيد ألا ننسى ما قاله مفكرون عرب قدماء، وهم من أدركوا قبلنا بعصور، وعملوا على تفسير هذه التحولات والنفسيات الخطيرة. ألم يُفسر ابن خلدون فى مقدمته نظرية العصبية، معتبرًا أن الجماعة التى تفتقد عصبيتها الجامعة، سرعان ما تتفكك وتتحول تلك العصبية إلى صراعات وولاءات داخلية ضيقة؟ والعصبية عنده بعيدة كل البعد عن التعصب الذى نعرفه اليوم، بسلبياته وانغماسه فى تكفير الآخر وإحلال دمه. وعندها تسود الولاءات الدينية والطائفية والمناطقية، فتتآكل الدولة، ويُنحر الوطن على مذبحة الواقع المؤلم. ولم يكن ابن خلدون وحده، بل نبّه الغزالى، فى كتبه، إلى استخدام الدين كأداة للفتنة، حيث ينتشر الظلم باسم الطاعة، وتُكفر المعارضة باسم حماية الشريعة، ويترسخ الانقسام المغلف بابتسامات تبدو حضارية، فيما هى تُخفى الكثير من الحقد على الآخر، ما يلبث أن يُعبر عن نفسه، بشكل أو بآخر، حتى تأتى الشرارة فتُشعل السهل كله!!
• • •
فما جرى ويجرى فى كثير من بلداننا العربية منذ عقود، ولكن بشكل بارز منذ أكثر من عقدين أو أكثر، لا يجب أن يكون مفاجئًا، وكأننا استفقنا على من كان أخًا أو جارًا حتى ليلة البارحة، وفجأة، وفى صباحية ساخنة، حمل السلاح فى وجه أخيه أو جاره.
• • •
فالنزاعات والحروب الأهلية ليست قدرًا، بل نتاج لخيارات امتدت على مر العصور، ويمكن تلخيصها باختصار شديد فى: انعدام العدل، تسطيح الهوية، إقصاء الآخر، تسييس المقدّس، كبت الحريات، وانعدام التنمية أو انحيازها لمناطق دون أخرى، وكبت الغضب حتى يتحول إلى انفجار مدوٍ. فهذه كلها تبقى جمرًا تحت الرماد، المغلف بنفس تلك العبارات التى تردد «التعايش»، و«الأخوة»، و و و...
• • •
منذ أن وضعت خرائط سايكس – بيكو حدودًا استعمارية لتجزئة بلاد المشرق والمغرب، باتت الجغرافيا العربية خاضعة لقسرٍ هويّاتى لا يعبّر عن حقيقة التنوع الثقافى والدينى والاجتماعى فيها. هذا القسر، الذى تأسست عليه الدولة القُطرية، جعل من الانتماء الوطنى فكرة مشوّشة، ترتكز على تصوّرات نُخبوية تفرض نفسها على الجماهير من دون إجماع أو تداول. ومن هنا بدأت عملية التراكم: قهر ثقافى، ومؤسسات إعلامية ودينية تتواطأ فى تثبيت صور نمطية عن «الآخر»، حتى لو كان هذا الآخر جارًا، أو زميلًا، أو شريكًا فى الأرض واللغة. وملايين من البشر فى منطقتنا يعيشون فى مدن من الصفيح، أو حتى ما تتكرم به حكوماتهم من مدن مصطنعة، دون تعليم حقيقى، أو صحة، أو حياة لائقة، فيما أقلية تحصد خيرات وثمرات هذه الأرض، وما تحتها!!!
• • •
علينا أن ننظر إلى ما يحصل، ليس فقط فى السويداء العزيزة على قلوبنا، بل فى كل سوريا الغالية، على أنه جزء من كل هذا، مع كثير من الأصابع الخارجية التى تعمل بجهد كبير على رسم خارطة جديدة للمنطقة. ونحن فى ذلك لا نفضح سرا، وإنما نعيد قول ما تقوله التصريحات الصهيونية وحلفاؤهم، وكثير من «الإخوة» لنا أيضًا، فكلها تشير إلى كثير من المفاجآت التى يُستخدم فيها هذا التراكم من العصبيات بشكل ممنهج، فيُرَخص الدم، وتتفكك المجتمعات على صِغَرها وتبعثرها.
متى نستيقظ؟؟ بل متى نتعلّم؟؟