فى تاريخنا الحديث ثلاثة أعلام كنت أتمنى معاصرتهم والجلوس فى حضرتهم، والنهل من فيض علومهم وآدابهم.
فأما الأول فهو خطيب الثورة العرابية عبدالله النديم «الأراجوز» الذى تمنيت أن أكون، صاحب السيرة النضالية العطرة، والتجارب الإنسانية بالغة الثراء.
وأما الثانى فهو «القديس» عبدالرحمن الخميسى الفنان متعدد المواهب والإنسان متنوع الخبرات ذو الروح الفَكِهة والحضور الإنسانى الأخَاذ
وأما الثالث فهو صلاح جاهين «الضاحك الباكى» فيلسوف البسطاء وشاعر الثورة وترجمانها وشيخ عرب الثقافة المصرية.
أقول: «كنت أتمنى الجلوس فى حضرتهم، وهذا لم يحدث فقد رحل آخرهم «صلاح جاهين» عن دنيانا قبل أن أكمل عامى الثالث عشر، فوجدتنى أحمل نفسى إلى جلساتهم وكأننى كنت معهم، فأتابع أحاديثهم، وأقرأ كتاباتهم، وأضحك وأبكى فى جلساتهم العامرة بكل ما هو جميل ومفيد.
فى مثلث الإبداع النديم والخميسى وجاهين الكثير مما كنت أتمناه لنفسى، فقد كانوا إلى جانب جمهرة المبدعين والمفكرين والمناضلين الكبار الذين ساهموا فى تشكيل الوعى وصياغة الوجدان المصرى والعربى منذ أواخر القرن الثامن عشر وحتى أواخر القرن العشرين، أصحاب الحضور الدائم فى جلسات النقاش والتفكير التى لا تخلو من دعابة لطيفة، وسخرية لاذعة، ومقالب ذكية.
فى كل ضلع من أضلاع هذا المثلث المصرى الأصيل، صفة مميزة، ونادرة مُعتَبَرة، وحضور لا يبارى، وقد جمعتهم جميعًا روح الفكاهة الموروثة من أجدادهم المصريين على مر العصور، تلك التى تحتاج كما يقولون إلى فضل من ذكاء، ودقة فى الحس، ورهافة فى الذوق والشعور، وهو ما يميز المصريين حتى الآن وإن اختلفت الطرق وتنوعت الوسائل.
فى الأسبوع الماضى جمعتنى مائدة الإفطار مع الأصدقاء «حسب الترتيب الأبجدى» رئيس مجلس إدارة اليوم السابع أكرم القصاص، الشاعر جمال بخيت، الفنان سامح الصريطى، الكاتب الصحفى عادل السنهورى، رئيس تحرير الشروق عماد الدين حسين، رئيس تحرير مجلة الشباب محمد عبدالله، ورئيس تحرير موقع الصفحة الأولى محمود الضبع، وصاحب الدعوة رئيس الهيئة الوطنية للإعلام أحمد المسلمانى.
طاف الحوار بيننا من موضوع إلى آخر ومن قضية مثيرة إلى ملف شائك، كل هذا والحديث لا يخلو من الدعابة، وسهام النقد الساخر التى لا تخطئ أهدافها.
يسأل أحد الأصدقاء بحكمة مستعارة هل اختفت النكتة من قاموس المصريين؟ فنضحك جميعًا، وكأننا نجيب دون تعليق.
لم تختفِ النكتة من قاموس المصريين ولن تختفى بالتأكيد، فالمصريون مشغولون بالنكتة حتى على أنفسهم، مجبولون على السخرية من أى شىء وكل شىء، لكن اختلاف الزمان منح النكتة المصرية نكهات متجددة، وميزات متنوعة، يندر أن تجد مصريًا سمجًا ثقيل الظل، حتى هؤلاء، يمنحون الآخرين أصحاب القدرة على التنكيت والتبكيت موضوعات طازجة للسخرية ومواقف مميزة للفكاهة، ومن ثم فإن حضورهم يبقى مهمًا فى حياة المصريين.
فى العصور القديمة ألهمت عصور الشدة والرخاء المصريين القدرة على السخرية والتنكيت، وكان الحكام مصدرًا مهمًا للإبداع الشعبى فى هذا المجال.
أما المستعمرون الذين داسوا بأقدامهم أرض مصر الطاهرة فقد كانوا فى عين عاصفة سخرية المصريين الذين قدموا إبداعًا مقاومًا أكمل منظومة المقاومة الشعبية متعددة الأسلحة والأدوات.
من يتابع صفحات التواصل الاجتماعى فى هذا الزمان يكتشف إلى أى مدى بلغت قدرة المصريين على السخرية، رغم كل شىء، ويكفى المرء الاطلاع على حسابات المصريين على تلك المواقع وتعليقاتهم فى أى قضية لينفجر فى الضحك بغض النظر عن الاتفاق والاختلاف مع ما يطرحونه.
فى تلك الجلسة التى ضمت الأصدقاء على مائدة الإفطار، كان الحديث الجدى يدور فى وقار لكن بين الحين والآخر يفجر أحدهم بتعليق ذكى الضحك فى نفوس الجميع.
إذا اختفت النكتة من حياة المصريين فعلينا أن نشعر بالقلق، ولو تراجعت السخرية من قاموسنا اليومى فيجب أن نعيد حساباتنا.
وعلى الجميع مواطنين ومسئولين إدراك أهمية التنكيت والتبكيت فى حياتنا، فهى ليست مجرد وسيلة للتنفيس، كما يرى البعض بل هى دليل على حيوية المجتمع وقدرته على مجابهة المصاعب والأزمات.
وعلى من يرون فيها مصدرًا للخطر تنبغى مقاومته إن يعيدوا حساباتهم، فالمطلوب هو الإبقاء على هذه الروح المصرية الخالصة.
أما السمجاء ثقيلو الظل فوجودهم غاية فى الأهمية فدونهم لا يصبح للنكتة معنى، ولا للسخرية حضور.
فاتنى أن أشير إلى أن هذه الجلسة التى ضمت الأصدقاء على مأدبة الإفطار وشهدت إلقاء عمنا جمال بخيت إحدى قصائده الجميلة التى جمعت بين رقة المعانى وجمال الإشارات وذكاء الدلالات.