هكذا احتفل أولاد العم بذكرى السابع والستين - داليا سعودي - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 1:38 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

هكذا احتفل أولاد العم بذكرى السابع والستين

نشر فى : الإثنين 12 يونيو 2017 - 9:55 م | آخر تحديث : الإثنين 12 يونيو 2017 - 10:17 م
لم تكن احتفالاتُ الدولةِ العبريةِ بالذكرى الخمسين لحرب يونيو 67 محض مهرجانات كرنڤالية جوفاء كتلك التى اعتدناها نحن فى مواسم انتصاراتنا. فقد كانت كل فعالية فيها موجهة إما لترسيخ أمرٍ واقع أو لتجميلِ وجه الاحتلال القبيح. لم تستجلب إسرائيلُ المطربين والبهاليل ومحترفى التعمية والتطبيل، بل سعتْ فى كل لفتةٍ أن تؤكد معنى أو أن تنفيَ معارضة. وفى وقت اختلطت فيه على بعضنا فى مصر فريضةُ التمسك بتراب الوطن، أبدى أولاد العم شراهة فى تقنين ابتلاع كل حبة رمل احتازوها غيلة وغصبا، ومضوا يحتفلون بإثمار استراتيجيتِهم طويلةِ النفس وسط سياقِ واقعنا العربى المهترئ.
***
كان أول مظاهر الاحتفال بخمسينية «حرب الأيام الستة»، كما سماها موشيه ديان، هو ذلك الإجراء الذى يُسبغ على الدولة الصهيونية سَمْتَ الدول الديمقراطية المعنية بالشفافية. ففى هذه المناسبة، حرصت وزارة الخارجية الإسرائيلية على الإفراج عن آلاف الوثائق والتسجيلات والشهادات السرية المتعلقة بتفاصيل حرب 67. وهو إجراءٌ تم الإمساكُ عنه بإصرار فى مصر، فلم يتم الإفراج عن أى من وثائق تلك الحرب، بل وتمت محاربة أيِ محاولة علمية جادة لاستجلاء معالم تلك الهزيمة النكراء، أو لتقصى أسبابها الهيكلية، تعميما لمناخٍ رسميٍ متكتم، دأب على إخفاء المعلومة وحجب مصادرها ووأد مبادرات البحث العلمى والصحافة الاستقصائية الجادة.
هذا ولم يكن مبدأ إفراج تل أبيب عن وثائق الخمسينية انتقائيا، ينتخب من الشهادات والتسجيلات ما يعزز صورتها الإيجابية. ففى إحدى وثائق الحرب، ظهر أبا إيبان، وزير الخارجية آنذاك، محذرا من عواقب احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة، مشبها إياه بـ«برميل بارود» قد ينسف الدولة مستقبلا ويعرضها لعداء المجتمع الدولى، بسبب التمييز العنصرى الصارخ بين المواطنين اليهود والعرب فى الحقوق المدنية. بينما تُظهر وثيقة أخرى أن رئيس الوزراء ليڤى أشكول كان يتمنى طرد جميع الفلسطينيين من الأراضى المحتلة باتجاه العراق، لولا اعتراض وزير العدل ياكوڤ شاپــيرا، الذى أيد بقاء الفلسطينيين «لأن هذه أرضهم» على حد ما جاء فى الشهادة. كما تسمح الوثائق بمتابعة يوميات المعارك لنرصد لحظة بلحظة تغير الحالة النفسية لأعضاء الحكومة من قلق البدايات إلى نشوة الانتصار على جيوش ثلاث دول عربية لم تفلح أى منها فى فرض سرديتها التاريخية للحرب بالقدر الذى نجحت فيه إسرائيل وتفردت.
***
وفى وقت ظهر بين نخبتنا من يشكك فى الحق العربى بمدينة القدس، وينتقى من كتب التراث ما يطعن به فى صلاح الدين الأيوبى ويتهمه بأحقر التهم، ظهرت ميرى ريجيڤ وزيرة الثقافة والرياضة الصهيونية على السجادة الحمراء فى افتتاح مهرجان «كان» بثوبها العجيب الذى لم يكن فى حقيقته ثوبا بقدر ما كان تسجيلَ موقفٍ وبيانا سياسيا صاعقا! ففى تلك المناسبة الثقافية الكبرى، التى تختال فيها النجمات بأزيائهن أمام عدسات وكالات الأنباء العالمية، ارتدت «ريجيف» ثوبا يحمل صورة مدينة القدس بأكملها ويبدو فيها مسجد قبة الصخرة وكأنه المـَعلم الأبرز على ذيل ثوب الوزيرة. وقد ألمحت بعض الصحف الإسرائيلية مثل الـ«جيروساليم بوست» إلى أن ثوب ريجيف يُعد بمثابة ردٍ على الصفعة التى وجهتها منظمة اليونسكو باعتمادها قرارا ينفى وجود علاقة تاريخية تربط بين اليهود ومدينة القدس، وهو القرار الذى تلا إقرار المنظمة العالمية فى أكتوبر الماضى بالتراث الفلسطينى المقدسى. لكن التحرك الحالى على الأرض يوحى بأن ثوب الوزيرة ليس مجرد رد فعلٍ مُكايد. فهذه الإطلالة الاستفزازية تندرج فى إطار سياسة عليا مبيتة لتهويد المدينة بالكامل وانتزاعها إلى الأبد. فمنذ الوهلة الأولى، بدا لكل عربى ما يزال مهموما بقضية القدس أن الثوب ما هو إلا تقنينٌ للاحتلال وفرضٌ صفيق لسياسةِ الأمرِ الواقع وحيلةٌ مراوغة لإسقاط الحقوق الأساسية بالتقادم.

فى تغريدة استفزازية، صرحت الوزيرة الإسرائيلية بأن ثوبها جاء ليعبر عن احتفال بلادها بالذكرى الخمسين لـ«توحيد» القدس عام 1967. هكذا ظهرت فى حديثها مفردةٌ جديدة ترددت كثيرا فى الآونة الأخيرة، وحولتها الدعاية الصهيونية هذا العام إلى حدثٍ احتفالى جلل، تحول بمقتضاه «احتلال» القدس إلى «توحيد» القدس. وهو الحدث الذى رصدت له وزارة الثقافة والرياضة الصهيونية ميزانية قدرها عشرة ملايين شيكل، بالتعاون مع وزير التعليم نفتالى بينيت لتعميم مظاهر الاحتفال على المدارس والجامعات وأندية الشباب!
***
ثم جاء ترامب إلى القدس، فعادت المفردة لتطفو على لسان رئيس الوزراء الإسرائيلى وهو يرحب بالرئيس الأمريكى «فى العاصمة الأبدية الموحدة للدولة اليهودية» على حد قوله الذى لقى استجابة ضمنية من الضيف الكبير. معلومٌ أن إدارة ترامب قد أعلنت إرجاء نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، ومعلومٌ أنه قد رفض أن يصحبه أى مسئول إسرائيلى أثناء زيارته لحائط البراق. لكن مبعث ذلك ليس بالضرورة تحريا لحيادية، أو طلبا لاعتدال. ففى حسبانى، بالنسبة لشخصية مثل ترامب، لها من النرجسية وحب الظهور الرصيد الذى نعرفه، ربما كانت لحظة انفراده بالجدار وعلى رأسه الكيباو فى سمته الخشوع، ما هى ببساطة إلا فرصةٌ للاستئثار بعدسات الكاميرات، والظهور فى كادرات بصرية موحية كأول رئيس يزور الحائط أثناء فترة وجوده فى منصبه. ذلك أن زيارته للقدس كانت بمثابة الضوء الأخضر لمزيد من الاجتراء فى استباحة المدينة المحتلة.
ففى اليوم التالى، خرج عشرات الآلاف من المستوطنين الإسرائيليين فى مسيرات صاخبة احتفالا بيوم «القدس الموحدة»، أفضت إلى مصادمات مع فلسطينيى المدينة المحتلة. وفى سابقة هى الأولى من نوعها، تم بث صور حية لجلسة خاصة عقدها نتنياهو وحكومته فى نفق يقع أسفل حائط البراق، حيث ناقش قرارات لإقامة مصعد كهربائى وممرات تحت الأرض وقطار معلق يصل بين الحى اليهودى وحائط البراق تمهيدا لتغيير معالم المدينة القديمة. وفى الأسبوع الماضى وحده، أعلنت الحكومة الإسرائيلية إقامة 3861 وحدة سكنية استيطانية، ليرتفع عدد الوحدات المقامة منذ وصول ترامب إلى سدة الحكم إلى ما يناهز عشرة آلاف وحدة استيطانية!

***
لكن لنكن صرحاء، لا يُهم كيف احتفلت إسرائيل بنصر اقتنصته فى الماضى وظلت ترسخ جذوره وتقطف ثماره فى كل يوم من أيام الأعوام الخمسين، المهم هو كيف استعادت مصر الذكرى وكم استفادت من دروس الهزيمة. لكن المحزن، بعد كل تلك السنوات، ليس أننا مازلنا نسير فى الطريق التى أدت بنا إلى 67 فحسب، بل إننا استهنا بدماء عشرات الآلاف من الجنود المصريين الشهداء الذين دفنوا أحياء فى رمال سيناء أثناء الانسحاب المرتَجَل الحزين فى 67. فبطعن حكومتنا فى مصرية الأرض التى كانت سببا فى بذل أكبر تضحياتنا وفى تجرع أثقل هزائمنا، فى إصرارها على تحويل مضيق تيران من مضيق مصرى عربى إلى مضيق دولى، فى تجاوزها لأحكام القضاء المصرى بشأن تيران وصنافير، يضيع الماضى، ويسقط الحاضر ويكفهر المستقبل.

 

داليا سعودي كاتبة وأكاديمية مصرية حاصلة على جائزة الصحافة العربية
التعليقات