المرآة المسحورة - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 3:46 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

المرآة المسحورة

نشر فى : الجمعة 13 أكتوبر 2017 - 9:35 م | آخر تحديث : الجمعة 13 أكتوبر 2017 - 9:35 م
“مرايتي يا مرايتي، رح أحكي لكِ حكايتي، قولي لي أنا مين؟”. تقف صاحبة المرآة أمامها؛ تنتظر ردًا تعرفه مُسبقًا. ردٌّ يأتي في العادة ليرضي غرورها ويصفها بأجمل الألفاظ، ويشيد بجمالها ورِقّتها ومَفاتنها مُؤكدًا أنها أروع مَن أنجبت الأرض. “يا مرايتي يا مرايتي قولي لي مَن الأحلى والأصبى؟” أنتِ طبعًا. المِرآة في قصص الأطفال تفهم وتتفاعل وتجيب وتعكس صورة؛ ليست بالضرورة حقيقية، لكنها تخدع السائل وتقدم له ما يريد أن يرى ويسمع.

***

الناظر للمرآة في هذه القصص غالبًا امرأة. لم نسمع برجل وقف أمام المرآة ليخاطبها، وينتظر منها مدحًا في وسامته أو ثناءً على قوة بنيانه، فعلى مَرّ العصور ارتبطت أمور التزين والاهتمام بالمظهر؛ مِن نعومة البشرة إلى سحر الأعين وتسريحة الشعر واكتناز الشفاه، بالنساء لا بالرجال. شببنا نعرف مِن الحكايات أنّ المرأة التي تطلب مِن مِرآتها الرأي، وتتلهَّف لاستقبالِ كلماتِ الإشادة بحُسنِها، تكون على الأرجح خبيثة شريرة، تدبّر المكائد لتطيح بمَن تفُوقها وتهلكها، فلا يتبقى سواها في أعين المرآة. 

***

بعضُ هؤلاء الذين يشغلون مواقع السُلطة والحكم في مُجتمعات مُتهاوية، يملكون ولا بُد نُسخًا مِن المرآة المَسحورة. يتطلعون فيها كلّ صباح فيبصرون آية مِن آيات العظمة وبرهانًا مِن براهين الكمال. يطرحون عليها السؤال مُطمئنين ويتلقون الإجابة المريحة في جزل وحبور؛ إذ تأتيهم بعكس ما هم عليه. يشعرون إزاءها بالرضاء والاكتفاء ويواصلون فعيلهم مُمتَنين؛ لذواتهم العظيمة وللمرآة الصديقة. 

***

ساسةٌ كِبارٌ يسألون مراياهم وينشرون الأجوبة مُستنكفين إبقاءها طيّ الكتمان. يعلنون على الملأ أنهم الأعلى ذكاءً والأكثر حِكمة والأصوب رؤية، بل والأسمى خُلقًا، وأن الأرض لم تنجب قبلهم ولن تنجب بعدهم. يصدقون أنهم الأفضل على الإطلاق ويتجنبون النظر في مرآة الحقيقة؛ فجزء منهم يدرك أنّ الحقيقةَ مَريرة والمرارة أشدّ مِن أن يحتملها خيالُهم.

***

المؤسساتُ الدينية تملِك هي الأخرى مرايا مَسحورة، تصور لها أنها مُعتدلة مَرنة، تقبل الاختلاف وترحب بمَن لا يسير على دربها، لكن مرآة الحقيقة تعكس ضيق أفقها وتزمتها وعزوفها عن استيعاب مَن لا يرتضي منهجها بديلا. المجتمع نفسه يملك مرآة مَسحورة تصور له أحيانًا أنه مُتديّن برحابة صدر وأنه مُتسامِح يستوعب الجميع، توهمه أيضًا أن له تقاليد يحافظ عليها ويدافع عنها بما يحوز مِن أسلحة الفَضيلة والشرفِ؛ لكن مِرآة الحقيقةِ تفضح عوراته بين الحين والحين وتُظهِر تعصَّبه وتفاهته وانسحاقه.

***

في الآونة الأخيرة مُنعت احتفالات الشيعة بعاشوراء، واتُّخِذ قرارٌ بمَنع المِثليين مِن الظهور في وسائل الإعلام، كما مُنِع الطلابُ مِن ارتداء السراويل الجينز بصيحاتها الحديثة في الجامعة، ثم ظهرت إرهاصات مَنع الصحافيين مِن ارتداء الجينز بوجه عام، وأُحيل شابٌ وشابةٌ احتفلا عناقًا بارتباطهما في ساحة الكلية إلى التحقيق والتنكيل، وحُبِسَ مَن أيّدوا مَسيرة الدفوفِ النوبية الداعية للحفاظ على هُوية يجري طمسُها، وتناقلت مواقع التواصل تسجيلا لصغار مدرسة ابتدائية؛ يهتفون بحياة المُحافِظ والوزير والوَكيل والرئيس، وظهرت صور احتفالات باذخة في العاصمة الإدارية الجديدة، وأخيرًا طلَّ علينا رجالُ الدين وعديدُ الصحافيين، يصدحون بأن المُلحدين والبهائيين والمِثليين والمُعارضين وعامة المُختلفين، مرضى يمثلون عارًا مُجتمعيًا وأخلاقيًا. صال أصحابُ السُلطة وجالوا وجمعوا البيضَ الذي يؤرق فضائِلَهم كلُّه في سلَّة واحدة، ليلقوا به إلى عمق البحر، ثم نظروا في المرآة المسحورة فأجابتهم أنهم مُتحضّرون، وسطيون، عادلون ومنصفون، ليس كمثلهم بشرٌ، وحثَّتهم على المزيد. 

***

المرايا الكائنة خارج أُطُر الخيالِ الجامِح والحكايا الأسطورية لا تُداهِن ولا تَكذِب، بل تعكسُ الموجودَ دون زيادةٍ أو نُقصان. هي أيضًا صامتةٌ لا تتفاعل أو تنطق ولا تحاول أن تسترضي صاحبَها أو صاحبتها. المرايا التي نعرفها في الواقع صادقةٌ نزيهةٌ، لكن أغلبنا لا يُحبُّ النظرَ فيها.
بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات