جنينة والستمائة مليار - عمرو عادلى - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 2:49 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

جنينة والستمائة مليار

نشر فى : الخميس 14 يناير 2016 - 10:25 م | آخر تحديث : الخميس 14 يناير 2016 - 10:25 م
تشهد مصر سجالا لعله الأول من نوعه على الإطلاق بين الحكومة والجهاز المركزى للمحاسبات فى أعقاب تصريح للمستشار هشام جنينة ــ رئيس الجهاز ــ للصحافة يقول فيه إن دراسة أعدها الجهاز توصلت إلى أن تكلفة الفساد فى مصر بلغت ٦٠٠ مليار جنيه أى ما يزيد على ربع الناتج المحلى الإجمالى لسنة ٢٠١٥، وذلك دون تحديد مدى زمنى معين أو حتى الأسس المنهجية التى تم بناء هذا الرقم شديد الضخامة عليها. وسارعت الرئاسة بتشكيل لجنة لتقصى الحقائق من جهات تنفيذية بالأساس للنظر فى مدى دقة الوقائع والتقديرات الواردة بدراسة المركزى للمحاسبات، وانتهت اللجنة تلك يوم الثلاثاء الماضى إلى ما اعتبرته «تفنيدا» لما ورد فى الدراسة على أساس افتقارها للمصداقية وللأساس العلمى السليم، بل وذهبت اللجنة إلى الإشارة إلى اقتراف رئيس الجهاز فعلة تضليل الرأى العام والإدلاء بتصريحات غير سليمة من شأنها الإضرار بفرص مصر لجذب الاستثمارات وترتيبها الدولى فى مكافحة الفساد، وصولا إلى تعالى أصوات فى الإعلام باستقالة أو إقالة رئيس الجهاز مع الإشارة لجذور تعيينه الراجعة إلى عهد الرئيس الأسبق محمد مرسى.

لا يرمى هذا المقال إلى الخوض فى الأبعاد السياسية ـ القائمة أو المحتملة ـ للسجال الحالى بين الحكومة والجهاز، ولا يرمى بالقطع إلى تناول المستقبل أو الماضى السياسى والوظيفى للمستشار جنينة بقدر ما يسعى إلى اتخاذ الأحداث الأخيرة مدخلا للتعليق على قضية مكافحة الفساد الإدارى فى مصر، ودور المركزى للمحاسبات والحكومة فى ذلك الإطار.
مبدئيا كشفت الأزمة الجارية عن أن الرأى العام غير مخاطب بتقارير الجهاز المركزى فكل ما بلغ مسامع الجمهور ومنهم المختصون فى الشأن الاقتصادى والقانونى والسياسى هو تصريحات للمستشار جنينة حول دراسة أعدها المركزى، ومن المعروف قانونا أن الجهاز المركزى يقوم بدراساته وتقاريره الرقابية ويحيلها إلى السلطتين التنفيذية والتشريعية بدون التزام بنشرها علانية، وهو أمر غير مفهوم لدى دولة يقوم ــ مفترضا ــ نظامها الدستورى على أن الدولة هى ممثل الشعب، وأن أموال الدولة هى أموال عامة مملوكة للشعب بحيث لا يمكن تبرير تلك «الرقابة السرية» على أداء الحكومة.
من الزاوية التاريخية اكتسب الجهاز المركزى للمحاسبات وظائفه الحالية من الفترة الناصرية رغم امتداد جذوره لما قبل ثورة ١٩٥٢، وهو أن يعمل كجهاز للرقابة المالية على الإدارة الحكومية لصالح الرئاسة وقتها، وذلك لحاجة عبدالناصر حينها لعين له تتابع الجهاز الإدارى المشكوك دوما فى نزاهته أو كفاءته أو الاثنين معا إبان سيطرة الدولة على أغلب الموارد الاقتصادية فى ظل نظام التخطيط المركزى، واستمر ذلك الملمح السلطوى الذى تكون فيه الرقابة للرئيس على جهاز الدولة لا للشعب ولا لممثليه طيلة العهود السابقة حتى ثورة يناير ٢٠١١. ولعل هذا هو ما قد يفسر لنا اعتبار الجمهور «أطرش فى الزفة» فى السجال الحالى بين الحكومة والجهاز حول دراسة مجهلة.
ولو أن الدراسات والتقارير كانت تنشر علانية باعتبارها وثائق عامة تخص مجموع المواطنين بعد عرضها على الجهات التنفيذية والتشريعية لأمكن الوقوف على أسسها خاصة لدى المختصين، والذين بدورهم يمكنهم أن يقدموا تحليلات متنوعة عبر الصحافة والإعلام عامة للجمهور الأكبر بما يوفر الحد الأدنى من المعلومات ومن المعرفة لنقاش عام حول ظاهرة تؤثر على الحياة اليومية للملايين وهى الفساد، وذلك عوضا عن الكلام الطائر بين اللجنة الحكومية ورئيس الجهاز وكأنهما يتحدثان بـ«سيم» ما أمام مشاهدين لا يفقهون شيئا.
***
أما النقطة الثانية فهى تصريح المستشار جنينة حول تكلفة الفساد المقدرة بـ٦٠٠ مليار جنيه دون تحديد مدى زمنى، ودون الإشارة للمنهج العلمى المتبع ودون إشارة لتعريف مفهوم الفساد فى الدراسة، والمفاهيم تتعدد بالمناسبة أكاديميا وحسابيا، وطريقة إجرائه وقياسه حتى يمكن الوصول لمثل هذا التقدير المهول، وذلك قبل الخروج للإعلام بالتقدير النهائى. وبما أنه من غير الممكن الحكم على مدى دقة التقدير دون الاطلاع على الدراسة ومنهجها وأسس جمع المعلومات فيها فمن غير المجدى الخوض فى نقد ما هو مجهول أصلا، وإن كان مما رشح من كلام السيد المستشار ثم فى رد اللجنة على الجهاز أن هناك خلطا ما بين تكلفة الفساد بمعنى الفرصة الاقتصادية الضائعة أى الدخل الذى كان يمكن خلقه لولا الفساد الإدارى، وبين الإيرادات الضائعة على الدولة نتيجة إهدار الأصول العامة، ويبدو أن التقرير قد ركز على مسألة الأصول هذه، وفى تلك الحالة لا تكون المسألة خاصة بالاقتصاد ككل إنما خاصة بالدولة فحسب فى صورة إيرادات، وهو أمر يستدعى بالطبع معرفة أسس التسعير التى اعتمدتها الدراسة للأراضى التى اعتبرت مهدرة.
وإن كان الرقم ٦٠٠ مليار جنيه فى الفترة الزمنية بين ٢٠١٢ و٢٠١٥ يوحى بالكثير من المبالغة خاصة أنه من غير الواضح من تصريحات جنينة فى الرد على اللجنة ما إذا كانت الدراسة قد استندت إلى وقائع الفساد فى السنوات الثلاث هذه أم أنها اتخذت من تلك الفترة نقطة زمنية لعمل «جرد» للأصول المملوكة للدولة، والتى تعرضت للإهدار نتيجة الفساد، وإن كان بالطبع من الصعب دائما ـ لأسباب كيفية وليست كمية ـ معرفة الخطوط الفاصلة بين الفساد بمعنى التكسب بتحويل المال العام إلى مال خاص من قبل الموظفين وشركائهم، وبين انعدام الكفاءة، والتى قد تؤدى لذات الإهدار. هذا علاوة على صعوبة التمييز بين الفساد باعتباره مخالفة للقانون أم ما إذا كان الفساد قد استولى على عملية التشريع ذاتها وأنتج قوانين وقرارات هى ذاتها فاسدة بحيث لا تصبح مخالفتها معيارا من عدمه.
أما النقطة الثالثة فهى دور المركزى للمحاسبات فى ضوء تصريحات جنينة الأخيرة، فحتى مع افتراض أن الدراسة لم تكن مبنية على أساس متين أو أنها قد شابها أوجه القصور التى أشار إليها تقرير اللجنة فإن هذا لا ينبغى له أن يخصم من مستقبل الدور الرقابى للجهاز، والذى حال ثبت قصوره يكون بحاجة لبناء القدرات وتوفير المعلومات ليضطلع بدوره الدستورى بكل استقلالية، علما بأن دور الجهاز هو عمل الدراسات وإعداد التقارير على أن تترك مهام التثبت من الوقائع والمخالفات للسلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية كل فى مجاله. أما أن يتخذ ما وقع ذريعة للخصم للنيل من استقلال الجهاز أو إخضاعه هو ذاته لرقابة السلطة التنفيذية التى من المفترض أنه هو الذى يراقبها فهذا سيكون تطورا سلبيا حتى مقارنة بالعصور السابقة التى تمتع فيها الجهاز بقدر من الاستقلالية النسبية فى مواجهة الحكومة وجهازها الإدارى.
وأما القول بأن تصريحات جنينة تقلل من شأن الجهود التى تبذلها الحكومة لمكافحة الفساد فإن الجهاز المركزى غير منوط به تقييم أداء الحكومة فى مجال مكافحة الفساد أو غيره من المجالات؛ فهو ليس البرلمان الذى تساءل أمامه الحكومة بل هو مجرد جهاز متخصص ممنوح له قدر من الاستقلالية حتى يقوم بمهام الرصد المالى لعمل جهاز الدولة الإدارى لا أكثر ولا أقل، والادعاء بأن دراسة كهذه أو الإفصاح عنها من شأنه أن يضعضع مركز مصر الدولى وأن يضر بوضعها فى تقييم الفساد فهذا أمر لا معنى له لأن مؤشرات الفساد لدى منظمات كالشفافية الدولية والبنك الدولى والمنظمات المتخصصة التى تخدم الاستثمار الخاص الأجنبى تعتمد على مؤشرات كمية تقوم برصدها من عينات، ولو كان مركز مصر يتحدد طبقا لتصريحات أجهزة الدولة لأصبح من صالح البلاد التكتم عما يجرى من فساد أو انعدام كفاءة تحت زعم إظهار صورة إيجابية لمصر، وهو بالطبع أمر غير منطقى.
***
إن الجدل القائم حاليا حول تكلفة الفساد وحجمه يعكس هما مشتركا بين القيادة السياسية التى تجد عدم كفاءة وربما عدم نزاهة قطاعات من الجهاز الإدارى للدولة عائقا أساسيا أمام فرص التعافى الاقتصادى وتشجيع الاستثمار المحلى والأجنبى، وبين الجمهور الواسع الذى يعانى من الفساد الإدارى فى العديد من المعاملات اليومية سواء كان من مواطنين عاديين يسعون للحصول على خدمات عامة أو رجال أعمال يحتكون بإجراءات الدولة التنظيمية للاقتصاد، ولا سبيل لحصر مثل هذا النقاش فى أروقة مغلقة بين الجهاز وبين البرلمان ناهيك عن أن يكون بين الجهاز والحكومة التى من المفترض أصلا أن يقوم هو بتقييم أدائها المالى لا أن تقوم هى بتقييم أدائه الرقابى. بل يكون الأمر باعتماد مساحة أكبر من الشفافية والعلانية فى تداول التقارير والدراسات كاملة حتى يشترك الرأى العام على أسس فيها قدر من المعرفة فى متابعة أداء المؤسسات التى انتخبها الشعب لإدارة مقدراته.

خبير وباحث فى الاقتصاد السياسي
التعليقات