ها هى الثورة انتصرت، ولكن علينا، حتى ونحن نحتفل، البدء فورا فى بناء أكثر الوظائف المدهشة التى ألقاها التاريخ فى طريقنا: مهمة بناء ديمقراطية مصرية. وقبل أن نحاول استيعابها كلها أو حتى بعضها وضبط حاجتنا للتعبير عن الفرحة بها، أعتقد أننا بحاجة لمناقشة أكثر المهمات إلحاحا. وفيما يلى بعض المقترحات:
علينا ألا نحارب أشباحا: فالجيش ليس بسبيله للاستيلاء على السلطة الرياسية، وليس هناك خطر حكم عسكرى. وأنا أتفهم المخاوف، لكننى لا أتعاطف مع الهلع. علينا ألا ندع أشباح ماضينا تتدخل فى تصورنا لحاضرنا وتحديد مستقبلنا. وقد كتبت أكثر من مرة خلال الأسبوعين الماضيين أن الثورات الشعبية لا ينتج عنها حكم عسكرى، كما تفعل الانقلابات العسكرية أو الثورات المضادة. لذلك علينا ألا نبدد طاقة نفيسة فى محاربة طواحين هواء. ففى الأفق حكومة مدنية، لا عسكرية، والمهم هو أن تكون ضمن نظام سياسى ديمقراطى.
إنهاء حالة الطوارئ: وينبغى أن تكون حالة الطوارئ قد رفعت بالفعل عند نشر هذا المقال. فعلى كل حال، هذا مطلب رئيسى للثورة كما أنه تعهد من الجيش. وليس هناك أى مبرر على الإطلاق للإبقاء على حالة الطوارئ لدقيقة واحدة أطول من ذلك. وعبارة «حتى تنتهى الظروف الحالية» لم تعد مقنعة. وسوف يسجل التاريخ ثورة مصر، باعتبارها أكثر ثورة سلمية، خالية من العنف، وتتسم بضبط النفس، عرفها التاريخ. وقد تبين الآن بوضوح أن العنف كان ناجما عن النظام السائد. فينبغى رفع حالة الطوارئ اليوم.
إطلاق سراح المسجونين السياسيين: الإفراج الفورى عن جميع المسجونين السياسيين، ومن ضمنهم جميع المحتجزين من دون محاكمة أو المعتقلين وفقا لأحكام قانون الطوارئ سيئ السمعة. ولا أساس للحجة القائلة بأن هذا قد يشمل إطلاق سراح المئات من الإسلاميين المتشددين، وبعضهم قد يكون متورطا فى أعمال إرهابية. ولدينا كل الحق فى توقع أن تضرب الثورة المصرية المثل للعالم، بما فى ذلك أمريكا أوباما نفسها. حيث ينبغى إطلاق سراح من لم يتم احتجازهم وفقا للإجراءات القانونية السليمة. فالديمقراطية الحقيقية لا تعرف ظروفا استثنائية، والمجتمع الديمقراطى الحقيقى قادر على التعامل مع العواقب.
التحقيق فى جرائم الشرطة والحزب الوطنى، وجميع أجهزة الأمن المحلية: خلال الأسبوعين الماضيين شهدنا ما يمكن أن تفعله أجهزة الأمن، المتحالفة مع كبار مسئولى الحزب الوطنى الديمقراطى وصفوته، وتدير شبكة من العصابات الإجرامية. وفى ظل استمرار حالة الطوارئ، وبذريعة محاربة الإرهاب، توحشت أجهزة الأمن وفسدت طوال 30 عاما مضت، إلى حد أصبحت معه ميليشيا غير شرعية، تمارس التعذيب، والقتل العمد. وعلينا ألا ننسى أن سلوك هذا الجهاز كان إلى حد كبير من أسباب اندلاع الثورة التى اعتبرته منذ اللحظة الأولى من أهم أهدافها، ويأتى مباشرة بعد الإطاحة بالرجل الذى كان مسئولا عن إنشائه وإدارته. وعلاوة على ذلك، فقد صار هذا الجهاز جامحا خلال الأسبوعين الماضيين. ولسنا بحاجة للبحث عن دلائل، فالأمر معروف للغاية، وقد شرحت ذلك فى عدة مقالات سابقة، ويكفى القول إن دماء 300 شهيد تصرخ طلبا للانتقام. ولا يمكن إقامة ديمقراطية من أى نوع فى ظل جهاز أمن كهذا. وليس ما سمى بلجنة تقصى الحقائق التى شكلها النائب السابق عمر سليمان سوى محاولة خفيفة للتستر. ويجب إلقاء القبض فورا على جميع المسئولين عن سياسة الأرض المحروقة من قتل وفوضى (سواء فى جهاز الشرطة أو بين مسئولى الحزب الوطنى وصفوته) التى بدأها النظام البائد خلال الأسبوع الماضى، وقد بدأت سلطات الادعاء المدنى عملية تحقيق وملاحقة شاملة، فى ظل حماية الجيش وضماناته. وينبغى أن يوضع جهاز الأمن الداخلى بكامله تحت إشراف مدنى/ عسكرى (يشمل ممثلى حركة حقوق الإنسان) من أجل البدء فى إصلاح شامل.
حكومة مؤقتة: يجب الإسراع فى تشكيل حكومة وحدة وطنية مؤقتة من التكنوقراط وشخصيات عامة وسياسية تحظى باحترام كبير، لتولى إدارة شئون البلاد، ووضع أسس الانتقال إلى ديمقراطية كاملة. وهناك شبه إجماع على الشكل الذى ينبغى أن تكون عليه هذه الحكومة، بل على عدد من الأسماء التى يجب أن تشملها. غير أن هذه العملية تحتاج إلى مراقبة وثيقة، وتدخل من عدة أجهزة تشكلها الثورة، خاصة حركات الشباب. فالتغييرات الجذرية فى الحكومة فتحت شهيات الكثيرين، ويجب أن نعترف بأن ثورتنا رغم أنها كانت بالغة الروعة، فإنها لم تحولنا إلى أمة من الملائكة. ويجب أن نتوقع الكثير من عمليات الخطف والصراع على جميع مستويات الدولة فى الأسابيع والشهور المقبلة، وعلينا أن نضع ذلك فى الاعتبار، كما نحاول خلق أكبر قدر من الضمانات لتكون العملية نظيفة وشفافة وقابلة للمساءلة بقدر الإمكان. وغنى عن البيان، أن الحكومة المؤقتة ينبغى أن تكون شاملة، فلا تتضمن فقط ائتلافا من جميع الأطياف الأيديولوجية والفكرية فحسب، ولكن أيضا مختلف قطاعات المجتمع وعلى الأخص المرأة والأقباط.
دستور مؤقت وقانون للحقوق: من أكثر مهام الثورة إلحاحا، سن دستور مؤقت، كما أقترح سن قانون للحقوق. ولسنا بحاجة للقول إن التدابير التى اتخذها النظام البائد لتعديل الدستور صارت لاغية وباطلة. ويجب أن تتفق شخصيات قانونية وسياسية وعامة، وممثلو الثورة على إنشاء لجنة تأسيسية، قليلة العدد نسبيا حتى تكون فعالة وكبيرة بما يكفى لتكون شاملة، لوضع ما ينبغى أن يكون دستورا مؤقتا مختصرا، ولعلى أضيف قانونا للحقوق يرسى مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان التى شكلت جوهر الثورة المصرية.
تشريع لإزالة بقايا الماضى: فى الوقت نفسه، يجب البدء بأسرع ما يمكن فى عملية تنظيف شاقة لاسطبلات الاستبداد القذرة. ومرة أخرى يجب أن تبدأ الأجهزة المشكلة وفقا للمعايير المذكورة آنفا، العمل بأسرع ما يمكن على متابعة أمور مثل إزالة القوانين المشرعة لمجموعة هائلة من التشريعات الاستبدادية والمعادية للديمقراطية، ووضع تشريع مؤقت يعكس أهداف الثورة، والأهداف الموضوعة فى الدستور المؤقت وقانون الحقوق. وسوف يتضمن هذا كأبرز الأمثلة قانونا جديدا للانتخابات، وتشريع جديد لتنظيم جميع مستويات الحكومة المحلية، وإزالة قانون العقوبات من التشريعات المعادية للديمقراطية (وبعضها يعود إلى زمن الاحتلال البريطانى) والنصر على حرية ممارسة الحقوق السياسية وحرية التعبير، بما فى ذلك الحق فى إنشاء التنظيمات السياسية، والنقابات العمالية، والجمعيات غير الحكومية، وما إلى ذلك.
جبهة إنقاذ وطنية: هناك العديد من الأفكار العظيمة والبادرات الرامية إلى إنشاء أجهزة تمثيلية وهياكل تنظيمية للثورة. وفى اعتقادى أن الشهور المقبلة سوف تشهد بعثا سياسيا هائلا يغير ويحول الخريطة السياسية الشاملة للبلاد على نحو لا يمكن حتى أن نبدأ فى التكهن به الآن. وكما كتبت من قبل، فإن القوى السياسية الجديدة سوف تشهد تحولا، وستذهب مجموعة ليست قليلة إلى غياهب النسيان. بيد أننا لسنا بحاجة إلى كرة بللورية لمعرفة أن الحزب الوطنى الديمقراطى مات بالفعل (وأتمنى فقط أن يقاوم الإخوان المسلمون إغراء السماح لجحافل متوقعة من قياداته بالانضمام إلى صفوفهم) ومع ذلك، ربما تكون أفكار من قبيل جبهة الإنقاذ الوطنى التى طرحتها حركات الشباب السبيل لإنشاء هياكل تنظيمية جديدة قادرة على أن تعكس الملامح المتفردة للثورة، كما تقدم الأدوات المطلوبة للرقابة، ولجعل هذه العمليات شفافة وقابلة للمحاسبة بقدر الإمكان.
حزب للشباب: من أكثر الجوانب إثارة للاهتمام فى ثورة الشباب، بلورة خطاب أيديولوجى وسياسى جديد، يبدو أنه تطور من تلقاء نفسه، بعيدا عن الفصائل الأيديولوجية والسياسية المتحاربة فى البلاد. وهذا وافد جديد بالكامل على المسرح السياسى المصرى، تطور على الأرجح فى فضاء الإنترنت، وأعترف أنه أخذ العجائز أمثالى على حين غرة. وهو خطاب وطنى مصرى، ليبرالى فى جوهره تقريبا، مبديا التزاما عميقا بحقوق الإنسان الأساسية، لكنه يمتد ليشمل ميولا علمانية، ودينية، ويسارية، وإسلامية، جميعها فى تعايش سعيد، وحوار متواصل. ولا أجد سببا كى لا يجد هذا الخطاب الجديد ما يعبر عنه تنظيميا. وخلال اليومين الماضيين، طرحت ثورة 25 يناير فكرة إنشاء حزب سياسى جديد. وأنا أؤيد تماما هذه المبادرة، وآمل فقط ألا يسمح شباب الثورة للمندسين العجائز بتخريب أو سلب وافد جديد فى المسرح السياسى المصرى، هم صانعوه على النحو الأكثر تميزا.
النقابات المستقلة: وأخيرا، تمثل الحركة العمالية المصرية، وافدا حاسما آخر على الساحة السياسية للأمة. وساعدت على مدى اليومين الماضيين فى ترجيح كفة الميزان لصالح الثورة، وقد صدرت بالفعل دعوة لإنشاء اتحاد جديد لنقابات العمال، كبديل جديد طال انتظاره لديناصور على النمط السوفيتى بنفس الاسم، تملكه الحكومة وتديره، لم يعد يمثل أكثر من كونه شاهدا موضوعا على قبر الحريات والحقوق الأساسية لنقابات العمال، سحقته قوة الشرطة. ويبشر مسرح ما بعد الثورة فى تاريخ مصر بإعادة عمال مصر إلى المشهد السياسيى الذى طردوا منه نحو 60 عاما مضت كفاعل جديد حاسم فى ضمان توزيع ثمار التنمية الاقتصادية وفق أكبر قدر ممكن من الإنصاف، وفى إعطاء بعد اجتماعى للنظام السياسى، ليصنع الديمقراطية الحية والتمثيلية الحقة التى تطلعنا إليها طويلا، وأثبتنا خلال الثمانية عشر يوما الماضية لأنفسنا وللعالم كله أننا نستحقها بالفعل.
ملاحظة أخيرة: علينا أن نقاوم الدعوة إلى الإسراع بإجراء انتخابات عامة، وتعتبر المهام الملحة السابق ذكرها، ومهام عديدة أخرى، مهمة للغاية فى ضمان إجراء تلك الانتخابات الحقيقية. ها هو نظام جديد يولد، لكن القديم مازال يتشبث بالحياة، علينا أن نطرد الأشباح أولا من بيتنا، وبعدها فقط نؤثثه مثلما نحب.