القاهرة فى العيد عروس شابة - تمارا الرفاعي - بوابة الشروق
الأربعاء 24 أبريل 2024 10:27 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

القاهرة فى العيد عروس شابة

نشر فى : الأربعاء 14 أغسطس 2019 - 10:00 م | آخر تحديث : الأربعاء 14 أغسطس 2019 - 10:00 م

تختار عائلتى أن تبقى فى القاهرة فى معظم الأعياد، كما كان يختار والدى أن نبقى فى دمشق أثناء الأعياد أيضا، أنا لم أعتد إذا على السفر فى المناسبات الدينية التى ينسحب فيها من المدينة الكثيرون من أهلها وسكانها. فجأة أشعر وكأن أحدهم قد سحب سلك الفيش الكهربائى فتوقف فيلم الضرب والعنف وحل مكانه فيلم طويل صامت بالأبيض والأسود. إمكانى أن أشاهده لكنه لا يزعجنى، أستطيع أن أترك الشاشة وأعود لاحقا إلى أحداثه. ثمة شعور بالراحة يبدأ بالتسرب إلى عروقى منذ أول يوم فى الإجازة. أخرج إلى الشارع فيستقبلنى ببراح، أشترى شيئا من دكان صغير اختار صاحبه أن يبقيه مفتوحا ربما من أجل من فى المدينة مثلى، الدكان خال من الزبائن المعتادين، خصوصا الأطفال منهم ممن يتسابقون فى العادة إلى واجهة المحل حيث كدس صاحبه الحلويات. أتجول فى المكان الضيق وأختار حلويات للطفلة التى ما زالت فى داخلى. أدفع ما على للبائع وأخرج من المكان ببطء فلا أحد خلفى يحثنى على الإسراع لأنه مستعجل.
***
تخلو القاهرة كغيرها من العواصم من عدد كبير من سكانها فى الأعياد الدينية. تهدأ فيها حركة السيارات فى الشوارع وتختفى الضوضاء التى أنتبه فجأة، حين تغيب، أننى تعودت على الأذى الذى تلحقه بى. تبدو الطرقات أوسع والأشجار أطول، حتى السماء تبدو أكثر زرقة ومن أراه فى الشارع يبدو لى أقل توترا. أختار الطريق الأطول رغم حرارة الجو المرتفعة، فالقاهرة معروفة بدفئها ورطوبتها العالية فى شهر أغسطس لكن لا يهمنى ذلك فلا أحد فى الشارع وهذه فرصتى حتى أعيد علاقتى بالحى وبالمدينة. أذكر أننى انتقلت للعيش فى القاهرة للمرة الأولى منذ سنوات طويلة فى فصل الصيف، لذا يرتبط الموسم الحار فى ذهنى مع البدايات، فأنا وبحكم عملى أنتقل من بلد إلى بلد ويحدث التغيير دوما فى منتصف فصل الصيف. الصيف إذا يمثل فى مكان ما فى داخلى البداية وهى نهاية أيضا، فعلاقتى بالقاهرة تنتهى أيضا فى فصل الصيف حين أنتقل منها إلى أماكن أخرى.
***
فى الشارع أشعر وكأننى أعود إلى القاهرة رغم أننى هذا الصيف أيضا على وشك أن أتركها، أنظر إلى المبانى التى حفظت تغيير تضاريسها مع مرور السنوات على واجهاتها، فهى كما وجهى أنا، تأثرت بجو القاهرة وأحداثها فاكتسبت تجاعيد تشهد على معاصرتها تطورات ربما لم تتوقعها، كما لم أتوقعها أنا أيضا. أبحث بين المبانى عن القاهرة التى استقبلتنى فى إحدى أولى زياراتى لمدينة وحدى دون عائلتى: من هنا مر بى الحنطور الذى لم أركبه بعد تلك الزيارة فقد اكتشفت سريعا أننى أحب شكله وصوت حوافر الحصان الذى يجره أكثر من وجودى داخله. هنا توقفت عند بائع العصير فشربت خليطا من الفاكهة أضحكنى اسمه وقتها. هنا الفيلا القديمة التى أستغرب أنها ما زالت فى مكانها رغم تعبها الشديد. أسترق النظر إلى حديقتها فأتعرف على وجه حارسها وأرى أطفالا صغارا من حوله أفهم أنهم أحفاده. لقد مرت فعلا سنوات كثيرة منذ رأيت الفيلا وحارسها وأولاده للمرة الأولى حين اتخذت من الزاوية التى أمامها مكانا أوقف فيه سيارتى كل يوم.
***
أظن أننى أتصالح مع القاهرة أثناء الأعياد الدينية حين يهجرها سكانها. أقف على شرفة بيتى فى المساء فأسمع حديثا بين شخصين فى الشارع من قلة الضجيج. ورغم أن تعلقى بالمدينة بات مرتبطا ارتباطا وثيقا بالعلاقات الإنسانية التى نسجتها فيها، أى رغم أننى أشتاق إلى أصدقائى القاهريين، إلا أننى أستمتع كثيرا بقاهرة تفتح ذراعيها فلا ينافسنى عليها أحد، أدخل فى حضنها كمن عاد إلى حضن أمه بعد أن انتهت من تربية عشرة أولاد أنجبتهم من بعده، ها هى القاهرة الأم تسترخى بعد أن غادر معظم أولادها المنزل، ها هى الأم تجلس على أريكة بدلال تنتظر ابنتها، أنا، أن تزورها وتعيد على مسامعها قصصا قديمة تذكرها بأنها ما زالت جميلة.
***
فى الأعياد تتنفس القاهرة وفى زفيرها الكثير من الشجن، العيد لم يعد كما كان والفرحة بهتت ألوانها. لكنها ما زالت أم الجميع، ها هى تحاول أخذ قسط من الراحة قبل عودة الأبناء وضوضائهم ومشاكلهم. فى العيد تلتقى القاهرة بأصدقاء قدماء فيعودون شبابا فى لحظة يتذكرون فيها كيف كان العيد. يضحكون على قصص قديمة ثم يغلقون الدفاتر بعد أن ينتبهوا أن بعد أعضاء المجموعة قد رحلوا منذ العيد الماضى. القاهرة فى العيد جدة عاشت طويلا وعاصرت كل الأحداث، وها هى مستلقية اليوم تنظر حولها باستغراب: ماذا حدث وكيف مرت السنوات، تتساءل. القاهرة فى العيد تنظر برفق على جسدها، تتفقد آثار الكدمات، تلملم نفسها وتهدئ من روحها، وها هى تتلألأ عند الغروب كعروس شابة تنتظر أن يأتى عريسها. كل عام والقاهرة مرتاحة.

تمارا الرفاعي كاتبة سورية
التعليقات