عندما يرى الإنسان نفسه «وحشا» في تحفة هيروكازو كوريدا - خالد محمود - بوابة الشروق
الإثنين 13 مايو 2024 7:28 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عندما يرى الإنسان نفسه «وحشا» في تحفة هيروكازو كوريدا

نشر فى : الثلاثاء 14 نوفمبر 2023 - 6:25 م | آخر تحديث : الثلاثاء 14 نوفمبر 2023 - 6:25 م

يكمن جمال فيلم «وحش» Monster، للمخرج اليابانى هيرو كازا كوريدا، فى وجهات النظر المتغيرة التى تفاجئك بشىء من الاثارة حتى النهاية المؤثرة انسانيا، وبرؤية تشتبك مع فكرك ومشاعرك فى آن واحد من خلال سرد دقيق لواقع اجتماعى مأزوم وحياة معاصرة غير مرتبة.
دون شك الفيلم تم تقديمه بذكاء وهو يعرض لاشكالية أخلاقية وانسانية باكتشافات حقائق مدهشة فى رحلته وقصته والتى بدأت بحريق ضخم يبدو متعمدا يقع فى برج سكنى فى مدينة سوا الصغيرة بمحافظة ناجانو.
مجازيا، يمثل هذا الاشتعال بداية رواية متكررة مقدمة من ثلاث وجهات نظر مختلفة، تبحث يأسا عن تلك الشرارة التى تفسر السبب الرئيسى للمأساة محاولة الكشف عن هوية وماهية «الوحش» الذى يدق ناقوس الخطر فى هذه البلدة الصغيرة.
فيما بعد تتبع الاحداث الصبى الصغير ميناتو (صويا كوروكاوا) حيث تبدأ التحديات التى يواجهها فى المدرسة وأدت إلى سلوكه الغريب والجديد، هنا تقلق والدته ساورى (ساكورا أندو) وهى أم عازبة ضحت بكل شىء بعد وفاة زوجها لتوفير تعليم مثالى لابنها الوحيد، وتعتقد أن أفعاله تنبع من شىء أكثر مما تشاهده، وكثيرا ما تتوجه إلى مدرسته للمطالبة بإجابات عن اسئلتها الحائرة. فى الوقت نفسه، يبدو أن زميلة ميناتو إيرى (هيناتا هيراجى) ومدرس الصف هورى (إيتا ناجاياما) يعرفان جانبا آخر من القصة. تقتنع المرأة بأن ابنها ضحية للتنمر فى المدرسة، دون أن يفعل المعلمون شيئا حيال ذلك. أخيرا، يعترف الصبى لأمه بما حدث: فقد أدلى معلمه السيد هورى (إيتا ناجاياما)، بالإضافة إلى ضربه، بعدة تعليقات فى الفصل، مما أثار سخرية زملائه، وبينما تتكشف الصورة تبدو الأكاذيب وتكشف النقاب عن الحقائق المدفونة فى السلوك والتعليم التى أزعجت الجميع والتى كان وراءها بالقطع المعلم. قصة غنية عن الطفولة، والأسرار السلوكية وحاجة الإنسان للتأقلم، وعرض رقيق للتنمر والخداع وأيضا الصدق الذاتى.. بل عرض استثنائى حول تعقيدات الحياة، خاصة مع تقدم المرء فى السن.
يشير حوار يوجى ساكاموتو إلى ما يعنيه أن يرى المرء نفسه «وحشا» لكنه قدمه برقة واحترام شديد للمشاعر المعقدة التى قد نختبرها فى الاطفال والشباب من خلال الشخصية المحورية ميناتو، ويركز المؤلف على التجارب والعواطف الطفولية وكيفية تأثيرها على التواصل مع الكبار البالغين.
يحتفظ الفيلم بأسراره حتى لحظاته الأخيرة، مرورا بالحقائق الثمينة التى تكمن فى قلب أحداثه والتى تتسلل إلينا بعمق السيناريو الذى فاز بالسعفة الذهبية بمهرجان كان، والصورة والأداء وكأنه يروى قصة تخصنا. ويبدو ان هناك حالة وجدانية خاصة فى تعامل كورييدا المذهل مع الممثلين الأطفال ليلهمونا بأنفسهم، بإظهار كل ذرة من المشاعر فى أدائهم حيث يعيش الأطفال فى عالمهم الخاص الملىء بالخيال والمغامرة والعاطفة وازدهار الدفء عبر سرد دقيق ومتعاطف للغاية مع حياة معاصرة بسيناريو صعب.
مع تقارب وجهات النظر، تبدأ قصة من الحنان المضطرب فى الظهور، حول الطريقة التى تعيش بها الصداقة والحب والخداع والمواجهة والقدرة على الرفض. فى الحقيقية هذا ليس فيلما يهتم باستكشاف آثار الخطأ، بقدر ما هو انشغل بالبقاء حول كيف أن الضررالذى حدث قد يحول الناس إلى وحوش.
قصة عميقة ومفجعة تستكشف عواقب الكذب، ومسئولية المعلمين، بينما تتساءل عن الوحوش الحقيقية التى تختبئ فى المجتمع.
أحيانا يكون الكذب، مهما كان مبررا، قادرا على إشعال لهيب نار يصعب احتواؤها. شهادات زور تدمر كل شىء فى طريقها، وتخفى فى الرماد بقايا حقيقة مشكوك فيها. وحش مخيف يهدد المجتمعات المعاصرة، ويسبب الانقسام والكراهية من خلال المعلومات المضللة التى تنتشر بسرعة، مثل انفجارات النار العنيفة، عبر شبكات التواصل الاجتماعى.
بفضل الحساسية الدقيقة التى اعتدنا عليها، يقودنا المخرج اليابانى للبحث عن إجابة السؤال السابق، كاشفا فى كل طبقة من طبقاته المتعددة مدى تعقيد الطبيعة البشرية وهشاشتها. ما مدى سهولة الكذب دون قياس العواقب، وما مدى صعوبة أن تكون والدا، وما مدى التقليل من قيمة العمل كمعلم، وما مدى خطورة العيش فى مجتمع وفى ظل ثقافة تدفع الشباب، من الصغر إلى الكذب.
فيلما عاطفيا للغاية، لأنه يستكشف العالم.. الحقيقة، الذكورة والأعراف الاجتماعية المتعلقة بالعلاقات العاطفية، يواجه المشاهد بسؤال أهم: من هو الوحش الحقيقى فى هذه القصة؟ وهو يتبع خط قصصه السابقة، التى تشكك بدقة فى الروابط الأسرية والطبيعة البشرية نفسها، لكنه ينجح فى إطفاء لهيب النار ويتركنا وقلوبنا محطمة إلى ألف قطعة من خلال تقطيع الأشياء وإظهار مخاطر وجهات النظر المتصدعة، يوضح المخرج كوريدا، وهو أحد أعظم الإنسانيين فى السينما، وصاحب «سارقوا المتاجر» الفائز بالسعفة الذهبية، أن التعاطف هو أكثر من مجرد حالة طبيعية للوجود؛ إنها عملية تتطلب التوسع المستمر فى مجال الرؤية.

خالد محمود كاتب صحفي وناقد سينمائي
التعليقات