نجمتان عاليتان وهلالٌ مُنير - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الإثنين 29 أبريل 2024 11:37 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

نجمتان عاليتان وهلالٌ مُنير

نشر فى : الخميس 15 أبريل 2010 - 9:30 ص | آخر تحديث : الخميس 15 أبريل 2010 - 9:30 ص

 من أروع المشاهد التى وقعت عليها عينى فى سماء أول الليل، منظر الهلال منيرا ببريق بلاتينى خالص الصفاء وأمامه تماما تتألق نجمة بديعة كأنها من ماس ونور، وكان كل هذا البهاء يشع على خلفية لون بنفسجى عميق عجيب، كأنه من قطيفة شفافة.

والمثير للدهشة والعجب، أن هذا المشهد للهلال والزُهرة كان فى سماء القاهرة التى يندر أن تظهر فيها النجوم لفرط تلوث الهواء بعوادم أكثر من مليون سيارة، ودخان المسابك والمصانع والورش ومحارق القمامة، وغبار الخلايا الميتة التى تنثرها بشرة أكثر من عشرين مليون إنسان، تتجدد بشرة كل منهم مرة كل شهر، وتضخ فى الهواء نصف كيلو جرام من غبار هذه الخلايا سنويا، فيزخر جو القاهرة بقرابة 27 طنا من هذا الغبار كل يوم، وتختلط بالضباب والدخان والتراب لتحجب بريق النجوم عن أبصارنا!

لم أكن وحدى من امتلأت نفسه بحبور هذا الجمال الآسر للنجمة فى ضيافة الهلال، فقد كان هناك عديدون ممن تداعوا لحضور معرض الفنان نصر الدين طاهر، رحمه الله، وقد كان صديقا غاليا وأخا عزيزا أكبر، ونوبيا جميلا ككل النوبيين المصنوعين من الأبنوس والعِنّاب والمسك، والأدب الرفيع واللطف.

كان نصر الدين طاهر، وهو أحد أعظم فنانى «الكولاج» فى العالم، وأقدرهم وأعجبهم، لأنه كان يستعيض عن ضربات ولمسات الفرشاة بقصاصات ورقية منمنمة ملونة، لأن الأطباء الفرنسيين منعوه من استخدام الألوان الزيتية كونها تسبب له حساسية من نوع نادر، تزيد عليه أعباء التهالك من ورم غادر قاتله نصر الدين ببسالة نادرة لأكثر من عشر سنوات، ومن آيات هذه البسالة أنه ظل يرسم لوحاته العجيبة بآلاف، وربما بملايين القصصات الملونة، حتى ان كثيرين من زوار معارضه كانوا يمدون أناملهم ليتأكدوا أن هذه ليست ألوانا، فترتد الأنامل متبينة الأعجوبة، ويتحول تعجب المتلمِّسين إلى ذهول.

كان عم نصر، كما كنت أدعوه ويدعوه كثيرون غيرى، يحضر معرضه هذا جالسا معظم الوقت، وكان جسمه الفارع والفاره قد ذاب، وضحكاته المجلجلة وصوته الرنان راحا فى وهن أليم، حتى أننى لم أكتشفه فى الزحام قبل افتتاح المعرض، لولا أننى سمعت نداءه الأثير لى «يا حبُّوب»، وبينما كان يحتضننى وأستطيع ضمه باحتواء بعد أن نحل كثيرا، لمحت فوق رأسه عبر باحة الأوبرا المفتوحة المنظر المهيب للهلال والنجمة، ولا أعرف كيف أحس نصر الدين بما أخذنى، لعله تبين شرودى فى ضمه، وإذا به يتمتم بطريقته المحببة الطريفة التى يخلط فيها بين ضمائر التذكير والتأنيث «شفت يا حبوب.. شفت.. منظر جميلة خالص»!

كان يرى بظهره ما أراه بوجهى، ولابد أنه كان قد اكتشفه بعين الفنان اللماحة قبلها. وكانت بداية مهيبة، أن يولى أكثر المدعوين لافتتاح المعرض وجوههم لجلال السماء، قبل أن يشاهدوا أعجوبة جمال الفن الإنسانى على الأرض.

لا أعرف لماذا تداعى إلى خاطرى هذا المشهد السماوى العجيب، بينما على أرضنا الآن يدور جدل غريب حول حلقة «مصر النهارده» التى استضاف فيها المحترم محمود سعد، كلا من مرتضى منصور وأحمد شو ــ بير ومعهم الشيخ خالد الجندى وابن مرتضى، فى مجلس صلح على الهواء، انتهى بكلمة موجزة من محمود: «فشلنا».

وعندما استعدت عبر الإنترنت مشاهدة الحلقة التى لم أشاهدها فى التليفزيون الرسمى، لأننى تقريبا لا أشاهده، شردت قليلا، وعدت متيقنا أن هذا لم يكن فشلا، بل كان نجاحا على غير انتظار لواحد من أصفى المصريين قلبا، وأنقاهم شجاعة، وأكثرهم قبولا بين الناس بالخير والحق، أعنى بالطبع محمود سعد، لا مرتضى، ولا شو ــ بير، ولا حتى الشيخ خالد.

ولكى أوضح كنه هذا النجاح، أحكى: عندما توجّب علىّ تقديم رسالة فى الجزء الأول من دراستى للاختصاص، اخترت موضوع علاج الاكتئاب بالوخز بالإبر الصينية، واقتنع أستاذى الأوكرانى بالموضوع بعد استبيان العلاقة بين الألم والاكتئاب اللذين يتشاركان فى ممر الانفعالات ذاته فى الجهاز «الحدودى» بالمخ، ويتشاركان فى العلاقة نفسها بنقص هورمون السيروتونين فى المخ أيضا، فإذا كان الوخز بالإبر الصينية يعالج الألم، فوارد جدا أن يعالج الاكتئاب.

وأرسلنى المعهد الذى أدرس به لأحصل على «دبلوم خاص» فى العلاج بالوخز، كما سمح لى بتطبيق البحث على عدد من حالات الاكتئاب بعد موافقة أصحابها، وكانت النتيجة بعد ستة أشهر من التطبيق: سلبية! لم تثبت فعالية ذات قيمة لهذا العلاج مقارنة بمضادات الاكتئاب الدوائية المعروفة، وأجاز مجلس القسم البحث، فالوصول إلى نتيجة، أيا كانت، هو وصول لحقيقة علمية، إيجابية كانت أو سلبية، وهى تقاليد علمية متبعة فى كل مراكز البحث والجامعات المحترمة، وتخالف تماما ما يجرى من تلفيق فى أبحاث للحصول على درجات علمية لا علم حقيقى خلفها، بل كذب يبدل ترتيب الصور والتحاليل والأرقام، لتطابق الافتراض الذى وضعه الباحث ومشرفه قبل إجراء التجارب، وهو ضلال وتضليل يحدث منه الكثير عندنا، بينما النتيجة السلبية هى عنوان حقيقة مفيدة قطعا، لأنها توقف الإهدار الإنسانى والمادى عن السير فى طريق لا جدوى منها.

منطلقا من هذه الذكرى، أرى أن محمود سعد لم يفشل وهو يعلن حقيقة النتيجة السلبية للحلقة، بل إن صدقه هو إشارة نقية لحقيقة موازية أستنتِجُ منها أن هذه الحلقة كانت فائقة النجاح، فقد أوضَحَتْ بجلاء حقيقة المستنقع الذى يتمدد على أرضنا، وحقيقة التدنى الذى ينشره نفر من المصريين تحولوا إلى شخصيات عامة فى غفلة من الزمن ومنا، بل يتصدى بعضهم لمهمة التشريع الذى يُفتَرَض أن يقود حياتنا بقوانينه.

أما انتهاز الفرصة للإجهاز على أحد أشرف وأصفى وجوه مصر الإعلامية، فهو الإجرام الحقيقى للمتربصين به، والمتصيدين فى الماء العكر، ولأسباب بعيدة تماما عن هذه الحلقة.

فقد بتنا نعرف أن فكرة الحلقة لم تكن من بنات أفكار محمود سعد ولا أبنائه، فقد تورط فيها بطريقة ما، لكن صدقه أنقذه وهو يعلن فى نهايتها: «فشلنا»، وهو الصدق الذى جعله لدى الناس أكثر الوجوه التى تطل علينا عبر شاشات التليفزيون قبولا، وهم بسبب صدقه تحديدا يحاولون الإجهاز عليه، غير ناسين مواقف لهذا الصدق فى موضوع التوريث وتعديل مواد الدستور المعيقة لحرية الاختيار، أعلنها محمود سعد بسريرته النظيفة، وفطرته النقية، وتحرره من أى انتماء سياسى، فكان أفعَلَ بصدقِه من عشرات بل مئات السياسيين.

يتكلمون كثيرا الآن، وعند اللزوم، عن نشيد مكرر اسمه «المهنية»، وهذه المهنية لديهم هى عدم الخروج عن «الخط» الذى يريدونه، وعدم الصعود فوق «السقف» الذى أغلقوا به سماءنا، لكن هناك ما هو أرقى وأعلى من هذا النشيد الذى كاد ابتذاله أن يُكتمَل، شىء اسمه «الإبداع»، أى تجاوز المألوف إلى ما هو جديد وطازج ومدهش، وكاسر حتى للخطوط الجامدة لما يسمونه «المِهنيّة»، وإننى أستعين فى تبيين هذا المفهوم بعبارة لأشهر رسامى عصرنا «بيكاسو» عندما قال ما معناه «لقد كان علىّ أن أرسم كل هذا لأتوصل أخيرا لأن أرسم كطفل»، بمعنى أنه كان عليه أن يخوض غمار مراحل فنية عديدة ومتنوعة، من الأكاديمية التقليدية، فالواقعية دقيقة التقنية، إلى التجريبية الزرقاء فالوردية فالتكعيبية، ليصل أخيرا إلى صدق وطزاجة الرؤية التى ترى بها عين الطفل الصافية الوجود والناس والأشياء.

محمود سعد حالة إبداعية جميلة فى إعلامنا المصرى، بل فى الإعلام العربى كله، هلال حقيقى منير على سماء إنسانية قطيفية البنفسج، هلال يستدعى إلى خاطرى، بطبيعة السياق، نجمتين مع هذا الهلال، نجمتين وصلتا أيضا إلى مُرتقَى «الإبداع» الإعلامى العالى، بالذكاء والصدق والثقافة ونقاء الانحياز للحقائق الإنسانية والوطنية النظيفة، بلا إدعاء سياسى، بأناقة مصرية محترمة جميلة، وبجمال مصرى محترم أنيق،

أولاهما نجمة تطل علينا بتألقها المتجدد فى «العاشرة مساء» اسمها «منى الشاذلى»، والثانية نجمة تطلع علينا فى «صباح دريم» فلا يخبو لها بريق، واسمها «دينا عبدالرحمن». نجمتان عاليتان وهلال منير، مهما تلوثت أجواؤنا، ومهما تكاثرت الغيوم السود، سنظل ندرك أنهم يضيئون عاليا، عاليا يضيئون. ليحفظهم الله، ويحفظكم، ويحفظنا، ويحفظ كل المخلصين فى هذا البلد الطيب المكلوم، من القادم القريب.. الغريب.. المريب!

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .