دعوة التطبيع ورؤية الإمام - أحمد يوسف أحمد - بوابة الشروق
الأحد 28 أبريل 2024 10:59 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

دعوة التطبيع ورؤية الإمام

نشر فى : الخميس 15 يوليه 2010 - 5:07 م | آخر تحديث : الخميس 15 يوليه 2010 - 5:07 م

 منذ ما يزيد على العام، وبالتحديد فى نهاية أبريل 2009، ناقشت فى هذا المكان الأفكار التى تدعو جموع المسلمين إلى زيارة القدس تحت الاحتلال الإسرائيلى، ومن ثم بتأشيرات إسرائيلية، بدعوى إبراز القدس كقضية إسلامية وإظهار التعاطف مع أهلها.

كانت الأجواء فى ذلك التوقيت مفعمة بتداعيات زيارة الموسيقار الإسرائيلى بارينباوم ــ ذى المواقف المعقولة نسبيا إزاء حقوق الفلسطينيين ــ القاهرة وقيادته أوركسترا مصرية، فضلا عن عدد من المؤشرات الأخرى.

وكانت سحب التطبيع الداكنة تتجمع من جديد فى سماء السياسة المصرية، لكن الشعب المصرى أثبت كعادته أنه قادر على أن يضع هذه المحاولات فى مكانها الطبيعى من التاريخ. والواقع أنه منذ بادرت القيادة المصرية بتوقيع معاهدة السلام مع إسرائيل فى 1979 ظهرت مشكلة التطبيع مع هذا الكيان الاستعمارى الاستيطانى الذى بات واحدا من المفارقات التاريخية فى عالم اليوم.

فإذا كان بعض الحكومات العربية وأولها الحكومة المصرية قد اضطر للتعاهد مع إسرائيل والاتفاق رسميا على تطبيع شامل للعلاقات معها انطلاقا من ضرورات سياسية واقعية، فإن الشعوب العربية ــ وأولها أيضا الشعب المصرى ــ كان لها رأى آخر، إذ لم تجد نفسها ملزمة بالتجاوب مع متطلبات السياسة الواقعية التى تركتها تمضى فى سبيلها على أى حال، وكان ذلك طبيعيا بالنظر إلى عقود الصراع مع إسرائيل التى لم تترك بيتا مصريا دون أن يحمل علامة من علامات هذا الصراع الكئيب.

ناهيك عن المتابعة اليومية لفظائع إسرائيل فى الأراضى المحتلة، وعما يتكشف يوما بعد يوم من مجازر ارتكبها هذا الكيان الصهيونى بحق أبناء مصر الذين أسروا فى حروبها المختلفة مع إسرائيل بما يمثل انتهاكا صارخا لجميع القوانين الدولية فى هذا الصدد. ولم يقتصر رفض التطبيع على الجماهير المصرية العادية وإنما امتد إلى نخبها الواعية التى أخذت على عاتقها مطاردة التطبيع أينما بدت مؤشراته وملاحقته قضائيا، كما فى الجهد الفائق الذى قام ويقوم به السفير المناضل إبراهيم يسرى فى أروقة المحاكم سعيا لاستصدار أحكام قضائية تقف حجر عثرة أمام التطبيع.

لا يدرى المرء بعد ذلك كيف يجرؤ مسئول أو مثقف أو كائن من كان على التصدى لهذه الموجة العارمة من رفض التطبيع من قبل الجماهير والنخب المصرية، فيدعو إلى تطبيع لا طائل وراءه إلا التسرية المؤقتة عن بعض إخواننا الفلسطينيين الذين قد يكونون بدورهم من أنصار التطبيع مع إسرائيل
، وكيف يجرؤ أيضا هذا المسئول أو المثقف أو غيرهما على أن يعيد تكرار أفكار تم دحضها من قبل، ورفضت على نطاق واسع، ولم تتم الاستجابة لها ولو فى أضيق الحدود. فهل ثمة جديد يدفع إلى محاولة إعادة الحياة إلى هذه الأفكار؟ نعم يوجد العديد من مؤشرات هذا «الجديد» وإليكم نماذج منها على سبيل المثال وليس الحصر.

فى السنة الفاصلة بين الدعوتين حدث تسارع مخيف فى تهويد القدس الشرقية بتكثيف الاستيطان الصهيونى فيها، ولم تشمل بالقرار المراوغ لوقف الاستيطان لمدة محددة باعتبار أن «القدس الشرقية كتل أبيب»، والحقيقة أنهما كذلك فعلا ولكن من منظور تعبيرهما عن اغتصاب الحقوق الفلسطينية وإن فى مراحل مختلفة من هذا الاغتصاب.

وفى السنة الواقعة بين الدعوتين ازداد أيضا الخطر على المسجد الأقصى بسبب الحفريات التى تجرى تحته بحثا عن أى سراب يعطى «الدولة الإسرائيلية» مشروعية التأسيس فوق أرض فلسطين التى حرم أبناؤها على نطاق واسع من الصلاة فى أقصاهم. فى تلك السنة أيضا بدأت عمليات طرد الفلسطينيين من القدس الشرقية تأخذ نطاقا أوسع.

وآخرهم النواب الثلاثة المنتمون لحركة حماس، والذين يعتصمون الآن فى مقر الصليب الأحمر الدولى وليس فى أى مكان آخر باعتباره الملاذ الوحيد الآن لهم الذى يفترض أن اقتحام إسرائيل له لإخراجهم منه بالقوة سوف يكلفها غاليا. فى تلك السنة ــ أخيرا وليس آخر ــ هاجمت إسرائيل أسطول الحرية الذى كان يهدف إلى كسر الحصار على غزة، وتجاوزت كل الحدود والأعراف الدولية بإنزال قوات تابعة لها على ظهر إحدى سفنه، والقيام بعملية قرصنة من الطراز الأول فى المياه الدولية، وإعمال يد القتل بدم بارد فى نشطاء حقوق الإنسان على متن تلك السفينة.

فى هذه الظروف كلها تزدهر الدعوة من جديد لزيارة القدس التى يُطرد منها أبناؤها، والصلاة فى المسجد الأقصى التى يحرم أبناء فلسطين منها دون أن تكون لنا رؤية واضحة بصدد توظيف هذه الدعوة فى خدمة الحق الفلسطينى، وهو توظيف مستحيل طالما بقيت هذه الدعوة مستندة إلى أسس واهية، ومنبتة الصلة بأى فعل مصرى أو عربى قد يجعل لها معنى أو يحفظ ماء وجوه الداعين.

وهكذا أصبحنا كالداخلين إلى سرادق عزاء للشد على أيدى أهل الفقيد ومواساتهم ومحاولة التخفيف عنهم، وقد ننجح فى هذا، ثم نمضى ساعة أو أقل نستمع إلى آيات الذكر الحكيم وننتهى إلى مصافحتهم، ثم نعود أدراجنا دون أن نكون قد غيرنا أى شىء من أبعاد الموقف. والمشكلة أن أصحاب هذه الدعوة وما يشبهها يحاولون الاستشهاد بالدين الإسلامى وتحديدا بمواقف للرسول عليه الصلاة والسلام أبرزها صلحه مع الكفار فى الحديبية وأدائه شعائر الدين فى بيت الله فى ظل سيطرة المشركين على مكة.

وبعيدا عن أن المشركين لم يكونوا «مغتصبى أرض»، وإنما كان الصراع بينهم وبين الرسول الكريم على عقول أهل مكة وليس على أراضيهم، وبعيدا عن أن الرسول كان يمتلك رؤية شاملة لإدارة هذا الصراع سرعان ما انتهت بانتصاره فى معركته مع الشرك ودخوله مكة ظافرا بين أنصاره، فإن الرجاء ملح على أن نبعد الاستشهاد بالدين عن قضايانا السياسية، فالاستشهاد به على هذا النحو يمكن من تبرير الشىء ونقيضه حسب هوى الذين يوظفون الدين لخدمة مواقفهم.

فكل من الحرب والسلام مع إسرائيل يمكن تبريره بنصوص دينية، وغير ذلك من الأمثلة التى شهدها واقعنا بالفعل. المهم إذا هو ما نملكه من رؤية لإدارة الصراع، فهل يريد منا الفلسطينيون حقا أن نزورهم معترفين بواقع الاحتلال البغيض لأراضيهم والهيمنة الثقيلة على مصائرهم، أم أنهم يريدون دعما يفتقدونه فى النضال من أجل استرداد حقوقهم أيا كانت صورة هذا الدعم؟ أما إذا كان ثمة إصرار على الاستشهاد بالدين فالحمد لله أن لدينا من المواقف الدينية المستنيرة الشىء الكثير.

ونبدأ بالبابا شنودة ــ وبالمناسبة فإن القدس ليست قضية إسلامية فقط كما يتصور البعض ــ الذى كان واضحا قاطعا منذ البداية، فلا تجوز زيارة القدس لأحد من أبناء كنيسته طالما بقيت تحت الاحتلال، وهم ــ حسب قوله ــ لن يدخلوها إلا مع إخوانهم المسلمين، ونعلم أن بعضهم يدفعه الشوق إلى زيارة الأماكن المسيحية المقدسة فى القدس،

لكنه يعود لطلب الاستغفار، ويكفينا على أية حال فى هذا الصدد أن يكون الخطاب «السياسى» للبابا شديد الوضوح والصراحة. لكن مثالنا الثانى قد يكون هو الأهم لأنه يأتى من الأرضية نفسها التى يقف عليها أصحاب الدعوة لزيارة القدس وهو الإمام الأكبر الشيخ أحمد الطيب الذى نقتطف من حديث أخير له مع الأستاذ مكرم محمد أحمد ثلاثة اقتباسات. الأول ردا على سؤال عن الحوار مع اليهود يقول فيه: «...، أما بنو إسرائيل فيريدون فقط من الحوار استدراج العرب إلى التطبيع دون أن يقدموا شيئا حقيقيا للفلسطينيين،

برغم أن الرسول الكريم كان يتعامل مع اليهود بدرجة عالية من الود والاحترام إلى حد أنه كان يطلب من المسلم إذا تزوج بيهودية ألا يجبرها على تغيير دينها، وأن يأخذها إلى المعبد كى تصلى، وبين اليهود أعداد قليلة تميل إلى الإنصاف، وما ينبغى أن يعرفه العرب والفلسطينيون أن إسرائيل لن تعيد لهم حقوقهم على طبق من فضة أو نحاس أو ورق، ومن يرى غير ذلك فهو فى الحقيقة يحلم، وعلى الفلسطينيين أن يتحدوا دفاعا عن حقوقهم المشروعة، وأن يستخدموا حقهم المشروع فى مقاومة المحتل بما فى ذلك المقاومة».

فى الاقتباس الثانى يسأل الشيخ عن استقبال الحاخامات فى مكتبه كما فعل الإمام الراحل أو مصافحة بيريز إذا التقاه مصادفة فى إحدى المناسبات فيجيب «لا أستطيع أن أستقبل الحاخامات،

ولا أستطيع مصافحة بيريز، ولا أستطيع أن أوجد معه فى مكان واحد، ولا أظن أن الشيخ سيد طنطاوى كان يعرف أنه يسلم على بيريز». وأخيرا فى الاقتباس الثالث يسأل الإمام الأكبر عن تفسير ما اعتبره الأستاذ مكرم محمد أحمد تشددا فيجيب «ليس لأنه (أى بيريز) يهودى، ولكن لأنه أحد الذين خططوا لعدوان إسرائيل الصارخ على الشعب الفلسطينى والاستيلاء على القدس التى هى واحدة من أهم المقدسات الإسلامية التى أشعر بقيمتها الهائلة،

ولو أننى صافحت بيريز فسوف أحقق له مكسبا، لأن المعنى أن الأزهر صافح بيريز، وسوف يكون ذلك خصما من رصيدى أو خصما من رصيد الأزهر، لأن المصافحة تعنى القبول بتطبيع العلاقات، وهو أمر لا أقره إلا أن تعيد إسرائيل للفلسطينيين حقوقهم المشروعة».

فهل يمكن أن نرى رؤية أوضح من هذه لطبيعة الصراع مع إسرائيل: لسنا فى صراع مع اليهودية، بل إن من حقنا أن نفخر بتراثنا الإسلامى فى العلاقة مع اليهود، وإنما نحن فى صراع مع مغتصبى حقوق،

وإعادة الحقوق لن تكون بالزيارات أو المصافحات لأن الهدف الإسرائيلى منها لا يعدو أن يكون استدراج العرب إلى التطبيع دون تقديم أى تنازل بالمقابل، وإنما تكون إعادة الحقوق بوحدة الصفوف ومقاومة المحتل بشتى السبل والوسائل.

وهل يمكن لأصحاب هذه الدعوة الغريبة التى قد لا يدركون هم أنفسهم ما وراءها أن يحاولوا فهم الكلام؟ وهل يمكن للعرب عامة والفلسطينيين خاصة أن يعملوا وفق الخطوط «الاستراتيجية» التى رسمها الإمام الأكبر طريقا لاسترداد الحقوق بعد أن تنكب مسئولونا الطريق السوى وسلكوا طريقا مغايرة تفضى إلى استخلاص الحقوق عن طريق تطبيع الزيارات والمصافحات؟
أستاذ العلوم السياسية

أحمد يوسف أحمد أستاذ العلوم السياسية بكلية الإقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، وعميد معهد الدراسات العربية