يمكن للحضارة أن تبدأ من الريف مجددا.. إن أردنا - نبيل الهادي - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 6:34 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

يمكن للحضارة أن تبدأ من الريف مجددا.. إن أردنا

نشر فى : الثلاثاء 15 أغسطس 2023 - 7:25 م | آخر تحديث : الثلاثاء 15 أغسطس 2023 - 7:25 م

يحكى فيلم عصر الجليد قصة لطيفة ومسلية تجرى على خلفية مرحلة مهمة من تاريخ الكرة الأرضية، وهى انتهاء هذا العصر الجيولوجى منذ نحو أحد عشر ألف عام إيذانا ببدء عصر آخر هو الهولوسين. كما تظهر الدراسات العلمية التى تتبعت بالأخص تفاوت درجات الحرارة على كوكب الأرض فقد تميز الهولوسين باستقرار كبير لدرجات الحرارة. وسمح هذا الاستقرار بإمكانية التنبؤ بحركة الطبيعة من أمطار وفيضان وظواهر أخرى.
أدى التغير المناخى من عصر إلى عصر إلى تغير كبير فى المناطق الطبيعية فتحولت بعض الغابات إلى صحارى ــ كما حدث فى مصر ــ تكاد تخلو من الحياة إلا فى مواطن محددة وصغيرة، مثل الواحات وضفاف الأنهار. إذ اضطر الإنسان الذى كان يعيش على جمع ثمار الأشجار واصطياد الحيوانات البرية التى كانت تعيش فى تلك المناطق إلى الهجرة للمناطق التى يوجد بها مصدر دائم للمياه العذبة.
كان نهر النيل مقصدا رئيسيا لهؤلاء المهاجرين الذين استقروا على ضفافه لضمان مورد دائم للمياه العذبة. ولكى تضمن تلك الجماعات موردا مستقرا من الطعام كان عليهم ــ كما يخبرنا علماء الآثار ــ أن يقوموا باختراع الزراعة منذ نحو سبعة آلاف عام (وهناك من يرجعها لنحو عشرة آلاف عام). ومع اختراع الزراعة وضمان مورد ثابت للطعام بجانب توافر الماء العذب بدأ الاستقرار البشرى الدائم وظهرت القرى فى مناطق مختلفة على امتداد نهر النيل خاصة فى صعيد مصر كما ساهم اختراع القوارب التى تعبر ضفاف النيل فى خلق شبكات من التبادل بين تلك الجماعات الأولى، وساهم هذا التبادل عبر عشرات وربما مئات السنين فى ظهور أنشطة أخرى بجانب الزراعة، فبدأت ما نعرفها الآن بالحضارة المصرية فى الظهور والتطور. عمر الحضارة فى مصر إذا مرتبط بعمر الاستقرار فى الريف ولا يمكن فصله عنها.
من المؤرخين من يجادل بأن مصر لم تشهد مدنا بالصفات التى حددها بعض الدارسين لكى تؤهل مكانا لكى يكون مدينة، ولكن بعيدا عن هذا الجدل فإن ظهور المدينة وتطورها فى بقاع كثيرة وصل لمرحلة حاسمة مع انطلاق الثورة الصناعية فى أوروبا. غيرت هذه الثورة نمط الإنتاج السائد فى العالم من كونه يعتمد على الإنتاج الزراعى وتبادل البضائع المرتبطة به بصورة مباشرة وغير مباشرة إلى كونه يعتمد بالأساس على منتجات المصانع والماكينات والبضائع التى تنتج عنها، ومهد هذا لعلاقات تبادل واستغلال بين مناطق العالم المختلفة. كانت الماكينة فى قلب الثورة الصناعية ليست فقط أداة للإنتاج الكثيف ولكنها أيضا كانت رمزا للكفاءة والنظام، حتى أنها أنتجت الجماليات الخاصة كما يظهر فى العديد من الفنون ومنها العمارة.
ولأن الماكينات تحتاج إلى طاقة لإدارتها فإن استخدام الطاقة شهد تحولا وتكثيفا غير مسبوق بدأ باكتشاف واستخدام الفحم الحجرى ثم اكتشاف واستخدام البترول ولاحقا الغاز والصور الأخرى مثل الطاقة النووية. ولتوليد الطاقة من تلك المواد الأولية كان لابد من حرقها وهو ما أنتج باستمرار الكثير من الغازات العادمة. فطبقا لبعض التقديرات، إن ما يقارب التريليونان من أطنان الغازات الدفيئة قد أطلقت فى الغلاف الجوى كما أن كمية الغازات الدفيئة التى أطلقت فى الخمسين عاما الماضية فقط تعادل نتيجة إطلاق ٢٥ قنبلة نووية.
• • •
منذ عدة سنوات، يطالب مجموعة من العلماء منهم العالم النيوزلندى والتر جين بالتوقف عن الحديث عن انبعاثات الكربون كمسبب رئيسى ووحيد للتغير المناخى. يرى جين وآخرون أن استعادة دورة المياه فى التربة والتى يلعب الكربون العضوى فيها دورا مهما لإعادة بناء هذه التربة يسمح لها بدعم نمو النباتات وتفعيل عملية النتح الأساسية لنموه وأيضا لتبريد الأرض. وفى خلال هذه العملية سيكون تخزين الكربون فى التربة على نطاق واسع ممكنا وحاسما، وذلك ليس فقط لسحب الكربون ولكن لاستعادة مسامية التربة وجودتها. وهذه التربة الجيدة هى الأساس فى الاستثمار فى الزراعة المتجددة التى لن تضمن فقط طعاما مستداما وأكثر صحة ولكنها أيضا ستؤثر على تبريد المناخ. وهو استثمار يعتمد على تبنى الوسائل الطبيعية والتقنيات البسيطة فى تطبيقه ولذلك فإن تكلفته الاقتصادية غالبا ما ستكون أقل كثيرا وأكثر فعالية.
لا يمثل الماء فقط وتدفقه المستدام العامل الحاسم لمواجهة التغير المناخى ولكنه أيضا يمثل التحدى الرئيسى لمستقبل الحياة فى مصر (وفى عموم الكرة الأرضية فى الواقع). وكما تظهر البيانات الحديثة فى مصر فإن الغالبية العظمى لاستخدام الماء تحدث فى الريف، خاصة فى الزراعة كما أن جزءا آخر كبيرا يحدث فى المدينة فى صور ماء افتراضى فى الطعام المستورد من خارج مصر.
وتظهر دراستنا منذ عدة سنوات لمنظومة المياه فى ميت رهينة كيف أن إحدى التحديات الرئيسية لمنظومة المياه هو التلوث الناتج عن صرف مياه الصرف الصحى للمساكن والتى لا يتسرب جزء كبير منها من الخزانات الأرضية ولكن ما يتم نزحه بانتظام منها ينتهى للأسف فى المصرف الزراعى القريب. وفى مكان لا يحصل المزارعون على مياه كافية للرى من الترع الآتية مباشرة من النيل ويضطرون لاستخدام مياه المصارف لتعويض الريات الناقصة، لنا أن نتخيل تأثير تدهور نوعية المياه على المحاصيل ونوعية التربة المحلية. كما رصدنا على الأقل أربع محطات محلية لتحلية مياه الشرب تحصل على مياهها من آبار جوفية محلية، وتقوم بمعالجة فى غياب مراقبة صحية رسمية. وقدرت إحدى طالباتى أن تلك المحطات مسئولة عن إنتاج ما يقرب من عشرين فى المائة من احتياجات السكان للمياه العذبة.
• • •
بينما قامت الطبيعة عبر ملايين السنين من خلال العمليات الثلاث الرئيسية، الإنتاج والاستهلاك والتحلل، بصورة ضمنت استمرارها وديمومتها فإن ما أحدثته الثورة الصناعية وازدياد العمران بصورة مذهلة منذ منتصف القرن التاسع عشر أدى لاختلال العمليات الثلاث. فمن ناحية اعتمد الإنتاج الصناعى على مدخلات غير متجددة تتمثل فى جزء كبير منها فى معادن ومواد مستخرجة من باطن الأرض وهى فى غالبها غير متجددة. ولتلبية الاحتياج المتزايد للمواد الأولية تم تدمير مساحات شاسعة من البيئات الطبيعية للتنقيب عن تلك المواد. كما أدى استخدام مواد سامة للمساهمة فى عمليات الاستخراج إلى مزيد من تدمير البيئات وتوسيع نطاق هذا التدمير. وبينما بدأ هذا الاستخدام المكثف للمواد الأولية فى بقاع أخرى فى العالم إلا أنه وصل مصر خاصة مع بدايات القرن العشرين ومازال مستمرا حتى الآن.
بالرغم من أن الاستهلاك الكثيف فى مصر يتركز أساسا فى المدن وبالأخص فى المناطق التى تسكنها الفئات الأكثر قدرة مالية. إلا أن تغير أنماط الاستهلاك وكمياته يمكن ملاحظته أيضا فى القرى المصرية على اختلافها. وأدى هذا الاستهلاك المتزايد إلى أن اختلت واحدة من أهم العمليات الطبيعية والتى ضمنت دائما استمرار الطبيعة، وهى عملية التحلل للمخلفات. فقد نتج عن الاستهلاك الكبير حجم كبير للغاية من المخلفات غالبها فى صورة يصعب تحللها أو تدويرها. وأدى ذلك إلى تراكم المخلفات بكميات مهولة سواء استطاعت نظم بلدية فى جمعها وإخفائها فى أماكن بعيدة (مكبات أو مدافن) أو فشلت فى القيام بذلك.
تأثير اختلال العمليات الطبيعية الحيوية يظهر فى اختفاء مساحات كبيرة وتدهور نوعية الأجزاء الباقية من مكوناتها الأكثر أهمية مثل الأراضى الرطبة التى يمثلها بوضوح النيل وشواطئه والبحيرات الشمالية مما يعطل أدوارها فى امتصاص ثانى أكسيد الكربون وتنقية المياه كما صاحب ذلك انخفاض أعداد وانقراض للعديد من النباتات البرية مع تأثير ملحوظ أيضا على العديد من الكائنات الأخرى من حيوانات وطيور وأسماك وحشرات. ونعرف من الدراسات العلمية الحديثة دور تلك العمليات فى الحفاظ على التنوع البيولوجى الضرورى لاستدامة انتاج الطعام.
• • •
التحدى الذى نواجهه كبير للغاية لإيقاف المزيد من تدهور الطبيعة والعمل على استعادة ازدهارها فى العام ٢٠٣٠ حيث من المستهدف استعادة على الأقل ثلاثين فى المائة من الطبيعة البرية المفقودة طبقا للجنة الدولية للتنوع الحيوى والذى يحتاج إلى إيقاف الملوثات التى تهدد تلك الحياة الطبيعية سواء كانت غازية أو سائلة أو صلبة. ويتطلب ذلك أيضا استخدام وسائل الزراعة الإيكولوجية وتوفير ما يكفى من ماء نقى وطعام صحى للسكان فى مصر، ويرتبط هذا بالتوازى مع دعم للبحث والعلم والإبداع فى شتى المجالات وهو ما يمكن أن يكون الخطوة الأولى لاستعادة مساهمتنا الحضارية فى العالم الذى نعيش فيه. فهل لدينا الإرادة والشجاعة لنعيد التفكير فى المشروعات الكبيرة والتى تقوم على التعامل مع أعراض المشكلات التى يعانى منها الريف، ولا تتعامل بالجدية نفسها مع الأسباب الجذرية لها والتشابكات المعقدة لتلك الأسباب إن أردنا للريف المصرى أن يتحول إلى مكان متجدد مرة أخرى؟.

التعليقات