حامد عمار وعقد اجتماعى جديد - داليا سعودي - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 11:23 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

حامد عمار وعقد اجتماعى جديد

نشر فى : الثلاثاء 16 ديسمبر 2014 - 9:35 ص | آخر تحديث : الثلاثاء 16 ديسمبر 2014 - 9:35 ص

فى عصر تفكيك الإنسان، واجتياح العولمة الكاسحة، ثمة أناس يتمسكون بمهنة تربية العقول والضمائر، ويقاومون تصدع التكوينات التقليدية للحضارة الإنسانية تحت قصف المدفعية الرأسمالية الثقيلة. برحيلهم تبدو الخسارة كخسارة الأوطان للمرابضين على ثغورها. وبرحيل عميدهم تمتزج لوعة الفقد بتساؤلات عن صيرورة التصدى.

ثمة مغزى عميق للطريق الوعر الذى اختارته حكمة المقادير للمفكر التربوى الجليل الدكتور حامد عمار. ثمة حاجة ملحة لكل خطوة خطاها لكى يصبح فيما بعد تلك القامة المصرية العربية الشامخة. كان لزاما أن ينشأ «شيخ التربويين العرب» فى قرية جنوبية قصية فى مديرية أسوان فى بدايات القرن العشرين، بمعزل عن خدمات التعليم، مكتفيا بالكفاف، شاهرا عند كل منعطف دراسى كلتا الشهادتين: شهادة التفوق وشهادة الفقر. تحمله القرية على أكتافها ليهرب من محبس الجهل، مثلما يحمل المساجين على أكتافهم أكثرهم أملا فى النجاة لكى يوصلوه إلى شباك الزنزانة العالى. أقول كان جديرا بالمدافع الأول عن العدالة التربوية الغائبة والمناضل من أجل ديمقراطية التعليم أن يتجرع شيئا من الظلم والفقر والمكابدة اليومية لعدم تكافؤ الفرص التعليمية فى بلاده كى يخبر بنفسه ما هو مرصود للدفاع عنه. فقليل من السم لازم لصناعة الترياق.

•••

مثل ڤولتير، ونجيب محفوظ، والكبار الذين يمتد بهم العمر ليناهز قرنا من الزمان، فتتاح لبصائرهم أن تعانق شريحة زمنية عريضة من الوقائع، ليصبح كل منهم فى مجاله المؤسس المنظّر والمطوِر المجدد، كان للدكتور حامد عمار على امتداد عمره الطويل أن يؤسس فى مصر والعالم العربى ل «علم اجتماع التربية» ويجدده ويطوره. ذلك العلم المركب المعنى بدراسة الظاهرة التربوية التعليمية من جميع مناحيها فى إطار تفاعلها مع الواقع الاجتماعى والسياسى والتاريخى، على غرار ما قام به إميل دوركايم فى فرنسا، وماكس فيبر فى دراسته لعلاقة الأخلاق البروتستانتية بالرأسمالية.

لكن فرادة الدكتور عمار تكمن فايبر لا يكتفى فى مؤلفاته العميقة الغزيرة بانتهاج التيار النقدى الذى اشتهر به غالبية العلماء والفلاسفة التربويين، فهو يضيف إلى أطروحاته النقدية الصارمة منهجا إصلاحيا نهضويا يقوم على خبرته الدولية الرائدة فى مجال التنمية البشرية، وعلى إدراكه للتحديات الكونية الكبرى التى تواجه الأنساق التربوية التقليدية المرتعشة فى زمن تداعى الأخلاق وطغيان اقتصاد السوق وبزنسة التعليم واستهداف الإدارة العالمية فى أعقاب الحادى عشر من سبتمبر لجوهر التربية العربية الإسلامية.

•••

هكذا أنبنت رؤيته الإصلاحية لحقل التربية والتعليم على مبدأى الحق والعدالة. ففى البلد الذى شهد وزير معارف أقر بأن «التعليم كالماء والهواء»، كان القدر جوادا بإيفاد حامد عمار للدفاع باستماتة عن هذا الحق الإنسانى الأصيل فى زمن اشتدت فيه ضراوة الهجوم على مجانية التعليم، وازدادت فيه الهوة بين تعليم الأغنياء الأجنبى الفاخر المرفه المفرغ من روح المواطنة وتعليم الفقراء المتهالك العاجز بأى حال من الأحوال عن مواجهة متطلبات العصر أو حتى عن إنقاذ هويته العربية من مآل الذوبان الحضارى المحتوم. وبين هؤلاء وهؤلاء، فئة تكتظ بها العشوائيات تستعد للانقضاض على هؤلاء وهؤلاء. وزبانية العولمة وعملائها يتفرجون على المشهد الفوضوى البائس وهم ينفثون دخان سيجارهم فى صلف وتهكم مقيت.

والحل، بحسب ما تقدمه لنا مكتبة قيمة أنجزها الراحل النجيب الدكتور حامد عمار منذ أربعينيات القرن الماضى وحتى آخر أيام حياته، هو عقد اجتماعى تربوى جديد. تعود فيه الدولة إلى الاضطلاع بدورها بعد انسحابها المتخاذل طوال عقود مضت، عقد يؤسس لمبدأ ديمقراطية التعليم، وهو الضمان الوحيد للسلام المجتمعى. عقد تعود فيه السلطة بغير تسلط، لاستئصال الفساد ولإعادة رسم السياسات الوطنية من أجل تعليم يصب فى مصلحة أبناء الوطن كافة، وتُستلهم فيه العملية الإصلاحية من داخل المنظومة القيمية للأمة لا من خارجها، بهدف وضع استراتيجيات تربوية عربية مستقبلية تصلح لتدارك الوضع الكارثى والمحبط.

رحم الله الدكتور حامد عمار، اللهم إنا نشهد إنه قد بلغ.

داليا سعودي كاتبة وأكاديمية مصرية حاصلة على جائزة الصحافة العربية
التعليقات