المفارقة فى عنوان المقال أننا لسنا فى رمضان 2012، لكننا فى رمضان 1433، والمحزن أن معرفة السنة الهجرية لم تعد من المسلمات، والمؤسف أن العنوان تصدر لافتات ملأت شوارع القاهرة وصحفها خلال الشهر المنصرم للإعلان عن الأنشطة المختلفة خلال رمضان، على نحو عكس إشكالية يقل الاهتمام بها فى زخم السياسة، وإن كانت فى حقيقة الأمر فى القلب منه.
•••
الإشكالية تتعلق بالهوية، والاضطراب بين الموروث والوافد باد فى التعبير بالشهر الهجرى والسنة الميلادية، وليست الإشكالية «دينية» (بالمعنى الفقهى على الأقل، فهى لا تتعلق بأحكام شرعية كالصوم وغيره) وإنما ثقافية تتعلق بالهوية، أى إدراك الذات، وتصورات الأمور التى تؤدى للتعبير عنها بصورة معينة، وهى ــ من هذه الجهة ــ شديدة الاتصال بإشكالية اللغة، التى ضعف الاهتمام بها وعز اتقانها، كما يظهر فى إعلانات رمضان وفى مسلسلاته، حتى التى تحاول استعمال الفصحى.
وقضية الهوية تصدرت المشهد السياسى منذ خلع مبارك ولا تزال، وينقسم الفواعل السياسيون بها إلى إسلاميين ومدنيين (مع التحفظ على المصطلحين) يتبنون مواقف تبدو مختلفة من قضية علاقة الدين بالدولة، يزعم كلاهما أن موقفه يعبر عن «الأصالة المصرية» (أحد الطرفين يتحدث عن الحفاظ على الأصل، وهو مصرية الدولة ومدنيتها، والآخر يتحدث عن العودة للأصل، وهو الإسلامية)، فى حين أن موقفهما من الموروث والوافد ــ وهو لب موضوع الهوية محل النظر ــ يبدو شديد التشابه.
•••
والجدل حول الموروث ليس جديدا، فهو مطروح منذ الحملة الفرنسية، محتدم منذ مطلع القرن العشرين، بسبب الهزيمة الحضارية التى عانتها الأمة عند مواجهة الاستعمار، والتى جعلتها ــ وفق نظرية ابن خلدون ــ أكثر قابلية للانسلاخ عن جذورها المعرفية، بسبب «ما يحصل فى النفوس من تكاسل» يجعلها «آلة لسواها وعالة عليهم»، فقل الاهتمام بالموروث وصار التطلع لا للبناء عليه وإنما للانفصال عنه، والوقوف على أرض جديدة، ليست أرضه (وربما ليست أرض الوافد أيضا، لكنها أرض خليط) واستدعاء بعضه منها، فتكون النتيجة هجينا بعيدا عن الأصالة والعمق.
والسؤال ذاته مطروح فى قضية اللغة، والتى تظهر الإعلانات تحريفها عن أصلها، وتحول الكتابة عنها للعامية، أو العامية المختلطة ببعض الألفاظ الإنجليزية، وكان هذا بداية فى المنطوق ثم صار فى المكتوب حتى وصل لبعض المطبوع من الصحف والكتب، والمشكلة هنا متعددة الأبعاد، فهى أولا تعنى ضعف التمكن من إدراك اللغة قراءة، الأمر الذى يؤدى لمزيد من الإضعاف للصلة بالموروث الذى وصلنا بهذه اللغة، فيزداد التشوه الثقافى الذى يخيرنا بين يسير ضيق من الموروث وترك له بالكلية.
ثم إن اللغة ليست أداة للتخاطب فحسب، بل وعاء يحوى الثقافة والقيم فى مفرداتها أو تراكيبها، وما فى اللسان العربى من مجاز وكنية فهم منه البعض ــ لما انقطعت صلتهم به ــ غير ما يفهمه منه متقن العربية، فكان لهذا الأمر بالغ الأثر على الثقافة، بل وعلى فهم الدين، وهو ما عبر عنه الثعالبى قبل ألف سنة حين اعتبر الإقبال على تفهم اللغة «من الديانة» كونها أداة العلم ومفتاح التفقه فى الدين، كما اعتبره «سبب إصلاح المعايش والمعاد، ثم هى لإحراز الفضائل، والاحتواء على المروءة وسائر أنواع المناقب، كالينبوع للماء، والزند للنار» لما تحويه من قيم وثقافة، وإدراك ماهية ومرامى ومقاصد الموروث يتعذر فى ظل التشويه اللغوى، الذى يقطع عن الموروث ولا يوصل بالوافد.
•••
ومجرد التخيير بين الموروث والوافد ــ كما يقول المستشار البشرى ــ يفيد انفصالا عن الأول، «فنحن عندما نتحدث عما نأخذ وما ندع من الموروث والوافد نكون قد سوينا بينهما، كما لو كنا بعيدين وخارجين عنهما معا، نكون قد وضعناهما معا كالسلع فى واجهات المحال، ونكون قد غفلنا عن علاقة الصراع والحوار القائمة بينهما، وعن أننا متضمنون فى واحد من أطراف هذه العلاقة، فيتأكد السؤال عمن نكون نحن إذن؟»
وهذا السؤال- الذى ظل مطروحا مدة تقارب قرنين- أعادت الثورة طرحه بقوة، بعد أن حررت المجتمع من أسر السلطة (ولو جزئيا)، فوجد نفسه فى مواجهة قرن على الأقل من تعطل الإنتاج القائم على أسس منضبطة من الموروث (فى العلوم الشرعية والآداب والفنون وغيرها)، ومن هيمنة الوافد على دوائر وطبقات صغيرة ولكنها متنفذة، على نحو أدى لانفصال دوائر الحكم وأدوات التأثير عن الثقافة المحلية، فنشأت فى المساحة بينهما ثقافات متباينة، لا تقبل هذه ولا تلك، ولا تعرف على أرض أيهما تقف.
جاءت ردود أفعال ما سبق متباينة، جلها يقف على الأرض الخليط فينتقى بغير منهجية من الموروث، وبغير نقد ولا كفاية دراية من الوافد، فتكون النتيجة تضييق واسع الموروث بقصره على بعضه (كـ «الحل الإسلامى» التى يصور الإسلام دليلا تفصيليا للسياسة والاقتصاد، وادعاء الإجماع فى المختلف فيه من الشرع، وقصر التأريخ على ما كان فى بعض القصور من دماء مع تجاهل ما كان فى المجتمعات من رقى وعلم)، أو استقباح حسنه (كالأحكام الشرعية التى حافظت على قيم المجتمع وتماسكه، أو «السنن الحسنة» التى انتشرت ويرى فيها البعض الآن بدعا)، أو رفض الوافد المتسق معه.
•••
الأسئلة التى تطرحها الثورة، سواء المتعلقة بالنظم السياسية، أو بالثقافة، أو بغيرها، لا توجد لها إجابات حاضرة، لأن الثورة أطلقتها فجأة بعدما ظلت تتراكم عقودا، والإجابة قد تستغرق أجيالا، وهى لن تأتى من «النخب» و»المثقفين»، وإلا فسيكون ذلك ترحيلا آخر يؤجلها لانفجار جديد، وإنما جل المطلوب لئلا نخطئ الإجابة أن نتخير أرضا صلبة نقف عليها وننطلق منها، وأنا منحاز لأن تكون هى أرض الموروث، إذ لابد للثورات أن تعيد بعض الثقة للشعوب لتقف على أرضها وتنطلق منها، وتسعى لدمقرطة المعرفة، ولكسر احتكار «النخب» والأموال على إنتاجها، والإبداع فى التدابير التى تجعل انتشار الفكرة نابعا من قبول الناس لها من حيث هى، لا لاستنادها إلى ذوى المال والنفوذ، أو ذوى المصالح والنفوس.