قصة المعهد المصرى بمدريد «1» - إيهاب الملاح - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 11:58 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

قصة المعهد المصرى بمدريد «1»

نشر فى : السبت 19 نوفمبر 2022 - 8:40 م | آخر تحديث : السبت 19 نوفمبر 2022 - 8:40 م
ــ 1 ــ
بدأت الصلات الثقافية مبكرا بين المجال الجامعى والأكاديمى المصرى والعربى، وبين نظيره الإسبانى فى النصف الأول من القرن العشرين، ومن يتتبع تاريخ نشأة الدراسات الأندلسية فى الجامعات العربية، سيكتشف على الفور عظمة الدور الريادى والتأسيسى لطه حسين الذى وجّه قسطًا وافرًا من مجهوده العظيم فى ترسيخ وتأصيل هذه الدراسة بأقسام اللغات والآداب بالجامعة المصرية.
ولم يكتفِ طه حسين بهذا بل تجاوز حدود الجامعة ميممًا شطره تجاه أقصى الغرب الأوروبى، شبه جزيرة إيبيريا بالتحديد، مقتحمًا جريئًا، وعاقدًا أواصر علاقات ثقافية مثمرة وغير مسبوقة، وإنشاء جسور معرفية عظيمة بين مصر والعالم العربى وبين إسبانيا؛ بدأت بمبادرة وفكرة فى ثلاثينيات القرن الماضى لإنشاء معهد للدراسات العربية فى مدريد، وتكللت هذه الجهود بالنجاح فى عام 1950 بتوقيع اتفاقية إنشاء وتأسيس المعهد المصرى للدراسات الإسلامية بمدريد.
كان من ثمار هذا التعاون الرائع حركة ثقافية كبرى وازدهار عظيم فى الدراسات المقارنة والبينية والدراسات الأندلسية القديمة منها والحديثة على السواء، وبدأت حركة ترجمة نشطة كأثر مباشر من آثار هذا الاتصال العظيم من وإلى اللغتين معًا (العربية والإسبانية).
وخلال الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى تُرجم العديد من نصوص أدبنا العربى الحديث إلى الإسبانية مصدرة بدراسات نقدية وتحليلية وافرة العمق والذكاء والرصانة، عكف عليها كبار المستشرقين الإسبان، وأعلام هذه الحركة فى الدراسات الأندلسية والمغربية والمشرقية على السواء.

ــ 2 ــ
فى مثل هذه الأيام وقبل 71 عاما افتتح الدكتور طه حسين المعهد المصرى للدراسات الإسلامية بمدريد؛ هذا الصرح العلمى والثقافى الذى شهد تاريخا وأمجادا علمية وثقافية وحضارية لم تتكرر فى تاريخنا المعاصر حتى وقتنا هذا.
افتتح المعهد فى حفل رسمى فى 11 نوفمبر 1950 بحضور الدكتور طه حسين (صاحب فكرة إنشاء المعهد، ومؤسسه، ووزير المعارف المصرية آنذاك)، والدكتور سليمان حزين، مدير عام الثقافة، والممثل الرسمى لمصر فى إسبانيا.
كان الاحتفال بافتتاح هذه المنشأة التى تقع فى واحد من أرقى أحياء مدريد وأكثرها هدوءا وجمالا، كان أسطوريا، استقبل فيه طه حسين استقبال الملوك وكبار رجال الدولة، وكان نجم وسائل الإعلام الإسبانية الأول آنذاك، وتم تكريمه على أعلى مستوى علمى فى إسبانيا، كما تم إعلانه باختياره عضوا مراسلا فى المجمع العلمى الملكى الإسباني؛ واحد من أرفع الهيئات العلمية فى أوروبا كلها.
ولو استطردنا هنا فى وصف تفاصيل هذا الاحتفال الذى كان بمثابة مناسبة ثقافية كبرى اهتمت بها كل الدوائر العلمية والإعلامية فى إسبانيا كلها آنذاك، لاستغرقنا أضعاف هذه المساحة، لكننا سنحاول أن نصف تفاصيلها وأجواءها والشخصيات العامة وممثلى الثقافتين العربية والإسبانية فى هذا الحدث الكبير فى حلقات قادمة بإذن الله.

ــ 3 ــ
نص القرار الوزارى الرسمى لإنشاء المعهد على أن هناك هدفين أساسيين لوجوده، هما:
ــ إحياء التراث العربى والإسلامى والأندلسى.
ــ التعاون مع الباحثين الإسبان وغيرهم فى ميدان الدراسات الأندلسية والإسلامية على وجه العموم.

عن هذه الفترة تحديدًا، يقول المرحوم الدكتور أحمد هيكل، أستاذ الأدب الأندلسى ووزير الثقافة المصرى الراحل، وأحد أعضاء هذه البعثة الأولى من أبناء الرعيل الأول من الدارسين المبتعثين إلى إسبانيا:
«كان دور المعهد المصرى للدراسات الإسلامية بمدريد عظيما فى تيسير كثيرٍ من الصعوبات وتحقيق كثير من الإنجازات.. كان المعهد بمنزلة مكتب البعثات الذى ييسر الدراسة، ويذلِّل الصعوبات ويتولى الكثير من شئون الطلبة والدارسين المبعوثين.
وأكثر من ذلك كان المعهد وما زال مؤسسة علمية أكاديمية مؤثرة، فهو يضم مكتبة غنية بها كثير من المصادر والمراجع المتصلة بالحضارة الأندلسية والدراسات الإسبانية.
وبه مطبعة تخرج مجلة المعهد العلمية، وما يتم فيه من بحوث ودراسات وتحقيقات، كما ينظم المعهد محاضرات لكبار الأساتذة والباحثين فى مجال الدراسات الأندلسية بخاصة، والإسبانية بعامة.
أما أول مدير للمعهد فهو الدكتور محمد عبدالهادى أبوريدة، ثم خلفه الدكتور على سامى النشار، ثم تولى أمره الدكتور حسين مؤنس..».
ــ 4 ــ
ويقول المرحوم على المنوفى إن البعثات الأولى من مصر إلى إسبانيا كانت لهذا الغرض. وكانت ثمرة ذلك عطاء جيل بأكمله فى الدراسات الإسلامية والأندلسية، وكذا الترجمة، «ولهم علينا الفضل العظم فى تعريفنا بالموروث التراثى الإسبانى العربى وبالترجمات الرائعة التى قدموها؛ ومن هؤلاء نذكر على سبيل المثال:
د. حسين مؤنس، ود. الطاهر مكى، ود. محمود على مكى، والدكتور لطفى عبدالبديع، ود. السيد عبدالعزيز سالم، وغيرهم.. نذكر لهم موروثا ترجميا رائعا مثل «تاريخ الفن فى الأندلس»، و«تاريخ الفكر الأندلسي»، و«ملحمة السيد» والروئع المسرحية للعصر الذهبى الإسبانى... إلخ».
وتوالى هذا النشاط بينهم، وبين من عاصرهم، من أمثال الدكتور عبدالعزيز الأهوانى، والدكتور عبدالرحمن بدوى، والدكتور سليمان العطار (هؤلاء الثلاثة قدّم كل واحد منهم ترجمةً رائعة لرواية «دون كيشوت» لمؤسس الرواية العالمية ثربانتس)، إضافة إلى إسهاماتهم فى فتح الطريق أمام جيل بل أجيال من الدارسين والباحثين والمتخصصين فى الأدب والثقافة والحضارة الأندلسية؛ لأمرين:
الأول: الإسهام المباشر فى تأسيس وافتتاح أقسام اللغة الإسبانية فى مصر، والتعريف بالأدب الإسبانى خلال العصر الفضى (لوركا وجيله)، والتعريف كذلك بالأدب المكتوب بالإسبانية فى أمريكا اللاتينية فى الفترة المعاصرة، وهنا يتجلى أستاذنا الدكتور صلاح فضل بترجماته ودراساته النقدية والمسرحية (الحياة حلم)، كما يقول الدكتور المنوفى.
والثانى: أن هذا الجيل المؤسس كان نبراسًا لخريجى الجيل الأول والثانى والذى يليه من هذه الأقسام، وتتلمذنا عليهم ونعتز بذلك.. وتفرعت الدروب المعرفية والثقافية أمامنا فكانوا مصابيحنا فى الولوج إلى ترجمة العديد من الإبداعات الأدبية والدراسات النقدية، وتلك الخاصة بالفنون والتاريخ الإسبانى الإسلامى، وحياة المدجنين والموريسكيين، والفكر الإسبانى المعاصر، ومعه الفكر والحضارة فى أمريكا اللاتينية.
(وللحديث بقية)