بين الروحانية والتفكير العلمى - إكرام لمعي - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 11:59 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

بين الروحانية والتفكير العلمى

نشر فى : الجمعة 22 فبراير 2019 - 11:35 م | آخر تحديث : الجمعة 22 فبراير 2019 - 11:35 م

من أهم الصفات التى نطلقها على الشعب المصرى أنه شعب متدين، ومتدين يعنى أنه يهتم بالروحانيات أو العلاقة الروحية مع الله من خلال العبادة والكتب المقدسة، والحقيقة أن إطلاق هذه الصفة على الشعب المصرى لا تعبر عنه جيدا فالشعب المصرى شعب متعبد وليس متدينا، هو مثلا يعبد الله فى المسجد والكنيسة لكنه لا يطبق ما يسمعه وما يردده فى حياته اليومية بل العكس هو الصحيح ودعونا نعَرف معا مصطلح الروحانية، ماذا تعنى الروحانية؟
عادة نعرف الروحانية بالتضاد مع المادية لكن هناك بعض التعبيرات الهامة التى تقربنا للمعنى الصحيح للروحانية مثل:
«إذا كنت جائعا فهذه مشكلة مادية أما إذا كان جارى جائعا فهذه مشكلة روحية» (نيقول بارديف). «الطريق إلى الروحانية الصحيحة يمر من خلال حركة العالم المادية «(داج همرشولد سكرتير الأمم المتحدة الأسبق). من هذه الجمل نكتشف عدم إمكانية عزل الروحانية عن المادية فالروحانية كما نفهمها هى اختبار غير مادى يدخل من خلاله الإنسان فى علاقة مع الله ويخضع لمبادئ وأخلاقيات الله لكن هذا التعريف ناقص لأن هذا الاختبار لا بد أن يتم باقتناع عقلى.
فالروحانية الحقيقية إذن: هى التى تقبل مخاطرة الالتزام بقضايا العصر الذى نعيشه أى هى علاقة مع الله ملتزمة بقضايا الإنسان مثل: المرض والفقر والجهل والظلم....إلخ وهى ليست غلق العين عن الشر بل فتحها لرؤية الشر فى الإنسان الفرد وأيضا فى المجتمع والنظام والدولة.
فى رواية للأديب البريطانى الراحل ألدوس هكسلى بعنوان:
«الجزيرة: island التى أصدرها عام 1969 توقفت عند موقف بعينه فى الرواية: الموقف الذى يرسم «عرضا مسرحيا تربويا» يقدمه الشباب فى الجزيرة (والجزيرة فى الرواية تصور مجتمعا مثاليا فاضلا تخيله هكسلى قائما فى إحدى الجزر بخليج البنغال شرقى الهند وجنوبى بنجلاديش ويقوم هذا المجتمع الفاضل على مزيج فكرى، مدهش من الديانات القديمة الراسخة فى المنطقة وثقافاتها المستجدة: الإسلام والبوذية والبرهمانية إضافة إلى القيم الإيجابية فى الحداثة الغربية ذات الصلة بالقيم ذاتها والتى يمكن تلخيصها فى العقلانية والوعى والتراحم أو التكامل الاجتماعى والتواؤم مع الطبيعة)... إلخ.
أما العرض المسرحى ذاته فهو تحوير انتقادى ساخر مقتبس من المسرحية المأساوية الإغريقية القديمة المشهورة «أوديب ملكا» حيث يضرب الطاعون المدينة لأن ملكها أوديب – فيما تزعم المسرحية القديمة – قد قتل أباه وتزوج أمه – دون أن يعرفهما طبعا – وحيث كان الطاعون عقابا «إلهيا» للمدينة التى لوثتها الجريمة المزدوجة؛ والجريمة نفسها – التى ارتكبها أوديب – كانت عقابا لعائلة أوديب لأن جده الأعلى كان قد قتل أحد أبناء أخيه ظلما وأطعم الأب لحم ابنه المقتول!... ولكن العرض المسرحى كان يسعى إلى إعادة كل هذه المصائب إلى أصولها وأسبابها «المعقولة الحقيقية» وتفسيرها على الأساس العلمى الوحيد الممكن فعلا، بعيدا عن اتهام «الآلهة» بما حاولت الأسطورة القديمة أن تحملها مسئوليته: فالطاعون فى العرض المسرحى طبقا للتفكير العلمى سببه البراغيث والفئران وعدم استحمام الناس بالماء النظيف والصابون.
وجريمة أوديب سببها أن أبويه الحقيقيين صدقا النبوة المشئومة التى قالها عراف مشعوذ دجال، فألقيا بأوديب الوليد الرضيع فى الجبل لتأكله الذئاب، لكنه نشأ معتقدا أنه ابن لأبوين غير الذين أنجباه فشب عدوانيا وعصابيا وشهوانيا لأنه: «لم يرضع من ثدى أمه التى ولدته ولم يستمتع بحنانها الدافئ ولا برعاية أبيه الحقيقى وحبه» وهذا هو التفسير المبنى على الخرافة.
فالآلهة فى الحقيقة بريئة من اتهامات صانعى الأساطير... والاستحمام بالماء النظيف والصابون ومقاومة الفئران والبراغيث هو التصرف الوحيد الذى يمكن أن ينقذ المدينة من الطاعون، إضافة طبعا إلى بديهية توبة أوديب توبة نصوحا مع معاقبته بالعقاب الملائم لجريمة «ضرب أفضى إلى قتل» الملك العجوز وحراسه فى مشاجرة بسبب النزاع على أولوية المرور فى طريق ضيق؛ والعقاب الملائم هو أن يعمل كناسا وصيادا للفئران حتى تستفيد منه المدينة بدلا من معاقبته لنفسه فى المسرحية الأصلية بأن يفقأ عينيه ليتحول إلى متسول كثير الزعيق والشكوى ولا نفع منه!
كان شباب «الجزيرة» فى هذا الموقف الروائى (الفنى) يسعون بعرضهم المسرحى إلى تبصير «أهلهم» من البسطاء بالأسباب الواقعية العلمية الحقيقية لأحداث الأسطورة، حتى يتعلم هؤلاء البسطاء ويعتادوا التفكير العلمى العقلانى فى مشاكل حياتهم الواقعية؛ واللجوء إلى الحلول العملية الفعالة لتلك المشكلات...
***
إن هذا المعنى هو ما استدعى رواية هكسلى إلى ذاكرتى؛ وهو ما جعلنى أتوقف عند ذلك «الموقف» فى الرواية فالحوار هنا لا يعنى الجدل العقيم؛ وإنما هو ضرب من الوعى بالواقع الإنسانى؛ فالإنسان عندما يتبين واقعه يدخل فى علاقة حوارية مع نفسه أولا ثم مع أتباع دينه ثم مع العالم».... فى تلك السطور يصل الكاتب إلى ختام تحليله – بالوصول إلى «الواقع الإنسانى» حيث يفترض أن معالجة مشاكله وتشوهاته تتطلب حلولا واقعية وعملية – تماما مثل مشكلة الطاعون فى المسرحية الذى لا علاج له سوى مقاومة الفئران والبراغيث والقذارة. إن الحوار بين البشر إنما هو وسيلة لقبول – أحدهم للآخر– المختلف معه دينيا من منطلق أن ينظر كل منهم للآخر باعتباره إنسانا، يتقاسمان سويا واقعا واحدا ومصيرا فى الدنيا مشتركا، وهما واقع ومصير يمكن – أن يهدده التعصب والجدل العقيم اللذان لا بد أن يحولا أى حوار إلى مشاجرة أو عداء مرير مميت؛ لكن المؤلف وصل فى تحليله إلى «الواقع الإنسانى» بمنهج تنازلى يبدأ من العموميات، أو الكليات التى يقوم المفكر صاحب مثل هذا المنهج التقليدى الجليل بتجزئتها إلى عموميات أصغر حتى يصل إلى «المحسوس» غير المجرد ولا العمومى – وهو الواقع الإنسانى – مع رغبة «منهجية» أيضا فى تعميم هذا الواقع وتحويل موضوعه من أسلوب ممارسة الناس لحياتهم... بما فى ذلك أسلوب حوارهم المتبادل وطريقة نظر كل منهم إلى الآخر – إلى موضوع سعى الناس إلى السمو الروحى وإلى المثل العليا العظيمة: الحرية والإخاء والوعى وتغيير العالم إلى الأفضل...
وهذا منهج فى التفكير لا شك فى قيمته العظمى فى الخطاب النظرى أو التجريدى؛ وهو منهج أنتج – فى التاريخ الثقافى / الروحى للإنسانية تراثا ثمينا تهتدى البشرية بأضوائه الإيمانية والأخلاقية على مر العصور...
***
ولكننا نضيف هنا أن البشرية يمكن بل لا بد أن تستفيد أيضا بالمنهج المقابل الذى استند إليه شباب «الجزيرة» فى رواية هكسلى وهو منهج البداية من الطرف المقابل لمسيرة السعى إلى تغيير العالم وجعله مكانا أفضل، يتكون من «مجتمعات» إنسانية حقيقية، تعانى من مشاكل أو أزمات أو اختناقات واقعية.. أى منهج البدء بالجزئيات البسيطة، الواقعية وصولا إلى المثل العليا الجليلة التى قد يكون بلوغها أيسر لو كان السعى إليها تدريجيا وعمليا (رغم أن الطاعون فى المسرحية لم يكن مشكلة بسيطة، وعدوانية أوديب ودهاؤه الدموى لم يكونا أيضا مشكلة بسيطة )...
إذا فكرنا فى بعض أحداث حياتنا «الواقعية مثل حوادث تريلات النقل إلى حوادث» الميكروباصات إلى «الإرهاب» المحدق بنا إلى الإيمان بلباس الشياطين والجن جسد الإنسان.. إلخ. فماذا لو أن «خطابنا الدينى» انشغل بتبصير الناس فى وطننا – مسلمين ومسيحيين من كل فئة أو طبقة أو مهنة بأن عدم قيام الموظف والمهندس والميكانيكى وعامل المزلقان أو التحويلة والمقاول والسائق والبائع.. والمشترى والراكب والماشى والفلاح أو الريفى بمسئولياتهم وبأن عدم التزامهم بأصول المهنة أو الصنعة أو الواجب أو القانون، هو – دون أدنى شك – عصيان لأوامر الله تعالى ونواهيه، وكفر بنعمته.
يتبين عقلنا الجمعى الواعى – فى أى حوار موضوعى عن أى مشكلة من مشكلاتنا – أن الإهمال والتسيب والركون إلى الحظ أو المصادفة أو السطوة.. مع الوساطة والشللية والمحسوبية والتمويه بالكلام «الكبير» وتجاهل أبسط قواعد السلوك القويم والقانون والحس السليم – لا أقول أبسط قواعد العلم – هى – على سبيل التعميم لا الحصر – مصدر كل تلك المشكلات...
فماذا لو انشغل «خطابنا الدينى» بتقويم سلوكنا العملى فى حياتنا الواقعية... ماذا لو كانت النصيحة المنطلقة من على منابرنا فى المسجد والكنيسة هى: استحموا بالماء والصابون، قاوموا الفئران والبراغيث؟!

إكرام لمعي  أستاذ مقارنة الأديان
التعليقات