حدث في «هلسنكي» - أيمن الصياد - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 2:21 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

حدث في «هلسنكي»

نشر فى : الأحد 22 يوليه 2018 - 5:30 ص | آخر تحديث : الأحد 22 يوليه 2018 - 12:40 م

بعد أيام فقط من تقريعه (غير الدبلوماسي) للأوروبية الأولى انجيلا ميركل على علاقاتها التجارية النفطية مع موسكو، وقف «السمسار» الأمريكي إلى جانب ثعلب الاستخبارات الروسي فلاديمير بوتين ليعلن من هلسنكي الباردة عن علاقاته الحميمة الدافئة التي لم يعد ممكنا إخفاؤها بعد ما بدا «على الهواء مباشرة» من وقائع، وتصريحات في المؤتمر الصحفي الذي أعقب اجتماع قمة «ثنائي»، عقد خلف أبواب مغلقة.

قمة الدراما في القصة المثيرة أن ترى الرئيس «الأمريكي» يعمل جاهدا على تحقيق أهداف غريمه «الروسي» .. فعلها ترامب

رغم محاولات ساكني «الكابيتول» غير المسبوقة لاستنطاق المترجم الأمريكي، فربما لن يعرف أحد أبدا ما جرى بالضبط بين الرجلين في اجتماعهم (الانفرادي) الذي اقترب من الساعتين، ولكن كل من حضر أو شاهد وقائع المؤتمر الصحفي يعرف أن ترامب لم يكن منشغلا بغير الدفاع عن ذاته، (وليس عن بلاده) أمام الاتهامات التي لم تهدأ رغم مرور عامين، بتورط الروس في مساعدته للوصول الذي كان مفاجئا، «وصادما» إلى كرسي رئاسة الدولة الأهم في العالم، وبالتأكيد عند الروس الطامحين، رغم جورباتشوف لاستعادة أحلام الهيمنة السوفياتية القديمة. 

هي ليست تقلبات، أو فرقعات دونالد ترامب «اللفظية» المألوفة. بل على العكس، كان الرجل متسقا تماما مع ذاته، متمحورا حولها كعادته. وكأي سمسار (كما كل مستبدي بلادنا الذين جربناهم) كانت ميكيافيليته حاضرة: أنا أولا، وليست «أمريكا أولا» كما يدعي شعار قبعة البيسبول التي روج بها لانتخابه بين هؤلاء البسطاء الذين ينحازون عادة «للفتوة» الذي تربوا على مغامراته في أفلام الغرب الأمريكي. 

رغم ضخامة جسمه، بالنسبة إلى رفيقه على المنصة، بدا رئيس الدولة الأعظم في العالم الطرف الأضعف. غلبته ذاتيته، ونرجسيته «البيضاء»، وإحساسه بالدونية أمام سلفه «المثقف» ذي البشرة الداكنة، خريج «هارفارد»؛ باراك أوباما، وغيره من «نخب واشنطن» السياسية. وثم كان أن قاده ذلك كله، إلى جانب رغبته المفهومة في تبييض صفحة انتخابات ٢٠١٦ الملطخة إلى الانزلاق إلى أرضية ثعلب المخابرات الروسي ذي الوجه الجليدي، الذي أجاد أمام العدسات واستجوابات الصحفيين، ليس فقط اختيار ألفاظه، بل ونظراته، وإيماءاته، وحركات يديه، أو ما يسميه المختصون «لغة الجسد». 

لم ينتقد الرئيس الأمريكي نظيره الروسي، بل انتقد الديموقراطيين، ومؤسسات الأمن القومي، والإعلام الأمريكى (!) وبات الأمر غريبا، وغير مسبوق.

***

في هلسنكي، عصر الإثنين السادس عشر من يوليو بدا المشهد «المرتب روسيا» دالا ومعبرا وغاية في الذكاء. ففي الساعة ذاتها الذي اصطف فيها الفرنسيون على جانبي الشانزيليزيه يرحبون بلاعبيهم العائدين بكأس العالم في كرة القدم، التي لم تكن أجواؤها الآخذة بالأبصار قد خفتت بعد، ألقى فلاديمير بوتين الرشيق بكرة قدم (حقيقية) لا مجازا في يد الرئيس الأمريكي المترهل، أو بالأحرى فى مرماه، في مشهد دعائي مباغت يعيد ترتيب أوراق «اللعبة». 

على الـ stage كان مثيرا أن ترامب، الذي لعب دور «الكومبارس» في شبابه، ليس وحده الذي يجيد صنع المشاهد «المسرحية». نعرف أنه فعلها من قبل حين لعب أمام العدسات (وأمام ناخبيه) دور السمسار الماهر الذي يستعرض بضاعته أمام مشتري مضمون (محمد بن سلمان في المشهد الشهير). ولكن ها هو الثعلب الروسي يفاجئه «بكرة قدم»، لم يعرف كيف يتخلص منها وهو على المنصة، بغير أن يلقيها في «حجر» زوجته الأنيقة الجالسة في الصف الأول. 

ربما حرمه الكرواتيون في «سوتشي» من كأس المونديال، ولكنه بعد يوم واحد فقط بدا سعيدا بالكرة التي سددها في «هلسنكي»

أحرز «الثعلب» الروسى هدفه إذن. 

ربما حرمه الكرواتيون في «سوتشي» من كأس المونديال، وربما صحيح أن الفرنسيين «الأوربيين»، هم الذين حظوا بالتكريم تحت الأمطار في «موسكو»، ولكنه بعد يوم واحد فقط بدا سعيدا بالكرة التي أحضرها إلى «هلسنكي» لتستقر في حجر ميلانيا ترامب. وبما سمعه من الرئيس الأمريكي (الزعيم التقليدي للغرب) من توصيف للاتحاد الأوروبي كخصم، لا كحليف «I think the European Union is a foe» كما قال ترامب نصا لمحاوره على CBS قبل ساعات من «الجلوس إلى» بوتين. (ترامب غرد بعد ذلك واصفا لقاءه مع بوتين بأنه كان أفضل من اجتماعه مع قادة حلف الناتو في بروكسل).

أحرز الثعلب الروسي إذن كل ما يريده من أهداف «بدت سهلة» بدرجة لا تصدق. غابت المسألة الأوكرانية، وشبه جزيرة القرم عن الطاولة. كما غابت أي إدانة للعمليات الروسية الاستخباراتية «القذرة» في عمق الأراضي البريطانية؛ عضو الناتو، والحليف الأقرب تقليديا للولايات المتحدة الأمريكية … الخ. وحضر بديلا عن ذلك كله ما يمكن اعتباره «تبرئة» من رأس النظام الأمريكي للاستخبارات الروسية الملاحقة «رسميا» من أجهزة الأمن «القومي» الأمريكية بتهمة محاولة تقويض الديموقراطية الأمريكية بالتدخل «غير المشروع» في انتخابات ٢٠١٦. 

***

صحيح أن روبرت موللر لم ينته من تحقيقه بعد لنعرف (بالدليل القاطع) ما إذا كان الرئيس الأمريكي كان قد تواطأ مع الروس لإنجاحه في انتخابات الرئاسة. ولكن تواطئه (المقصود) من عدمه لا ينفي ما يبدو أنه صحيح إلى حد كبير من أدلة على تأثير روسي ممنهج في تلك الانتخابات.

في كتابه Facts and Fears: Hard Truths from a Life in Intelligence يعدد جيمس كلابر مدير هيئة الأمن القومي الأمريكية السابق الأدلة على التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية (٢٠١٦) وأن فلاديمير بوتين، رجل الـ KGB القديم أشرف على تنفيذ تلك العملية بنفسه. معتبرا أن مسألة التواطؤ في الانتخابات الرئاسية تعد مع ذلك ثانوية بالنسبة «للتهديد العميق الذي باتت روسيا تمثله مع وجود ترامب على النظام الأمريكي».

أيا ما كان الأمر، فربما لا يعرف الأمريكيون حقا ماذا ستنتهي إليه تحقيقات موللر، أو بالأحرى ماذا ستفعل نتائجها «على الأرض» في مجتمع نجحت شعبوية ترامب، في أن تجعله «استقطابيا»، ومنقسما على نفسه كما لم يحدث من قبل. ولكننا نعرف من الشواهد كلها، وليس آخرها اجتماعه «الانفرادي» مع الرئيس الروسي، أن ترامب يساهم واقعيا في تحقيق أهداف «بوتين» الاستراتيجية، وأهمها حل حلف الناتو، أو على الأقل خروج الولايات المتحدة منه. كما أنه لا يخفي رغبته (أو سعادته) بتفكيك الاتحاد الأوروبي، ففضلا عن أنه كان من أوائل المؤيدين لخروج بريطانيا من الاتحاد، إلا أنه لم يتردد في انتهاز فرصة أزمة حكومية في لندن، التي كان رسميا في زيارتها ليلمح (بلا أي قدر من الدبلوماسية) إلى أن رئيسة الوزراء لا تصلح لهذه المرحلة، لا لشيء إلا لأنها تحاول إيجاد بدائل للخروج (الكامل) من الاتحاد.

لا أعرف ما إذا كان لدى ثعلب الاستخبارات الروسي ما يبتز به ترامب (الموضوع كان محلا لسؤال صريح طرح في المؤتمر الصحفي)، ولكننا نعرف أن الرجل على أية حال لم يترك نقيصة، ولا فضيحة إلا وارتكبها، بل وتباهى بها. لم يبق إلا أن يكون لدى بوتين دليل على «خيانة» الرئيس الأمريكي لبلاده، وهو اتهام لم يتردد جون برينان المدير السابق لوكالة الاستخبارات الأمريكية في أن يوجهه علانية للرئيس في تغريدة على تويتر عشية مؤتمر هلسنكى، قال فيها نصا: 

Donald Trump’s press conference performance in Helsinki rises to & exceeds the threshold of «high crimes & misdemeanors.» It was nothing short of treasonous. Not only were Trump’s comments imbecilic، he is wholly in the pocket of Putin.

بالمناسبة كلمة treason التي استخدمها رجل الاستخبارات الأمريكي الأول احتلت يومها المرتبة الأولى بين الكلمات التي بحث عنها الباحثون عن المعنى اللغوي على موقع Merriam Webmster Dicitonnary

***

عربيا، لم تسفر قمة الأشرار البائسة، غير عن ما بدا «صفقة» ضمن صفقات الشرق الأوسط، ركنها الأصيل «ضمان أمن إسرائيل».. لا غير

عربيا، قد يظن البعض أننا نبالغ في الاهتمام بما هو شأن أمريكي «داخلي» خالص. وهذا صحيح، لولا أن هناك من كان قد قرر، ثم كان تصرف؛ استراتيجيا على أساس أن «٩٩٪ من أوراق اللعبة» في يد أمريكا. ثم كان بعد أن جاء ترامب، أن احتفى البعض «بالكيمياء»، ورقص آخرون مراهنين على أن «السمسار»، كأي سمسار لا يعرف غير المال والذهب، ولا تعنيه حريات، أو حقوق إنسان، لا يحب البعض أن يأتي ذكرها على طاولات صارت حميمية بعد أن لم يعد يشغلها غير أحاديث البيع والشراء والصفقات.

في هلسنكي، كان العرب حاضرين، أو قضيتهم (إن كانت ما زالت قضيتهم)، أو إن هناك من لا يزال يدرك أنها قضية «أمنه القومي». والحاصل أن قمة الأشرار البائسة، وما أعلن عنها في المؤتمر الصحفي لم تسفر، عربيا غير عن ما بدا «صفقة» ضمن صفقات الشرق الأوسط التي لم يعد أصحابها يتحرجون من الحديث عنها. وركنها الأصيل «ضمان أمن إسرائيل»، مقابل أن يغض الأمريكيون الطرف عن الوجود الروسي، أو حتى الإيراني (حليفة روسيا المؤقتة) في سوريا. المهم أن لا يقترب الإيرانيون جغرافيا من حدود إسرائيل، وواقعيا من أمنها. ولا عزاء للشعب السوري (ولا لغيره من الشعوب العربية) التي كانت تحلم بالحرية والديموقراطية. 

بالأرقام، ذكر الرئيسان «إسرائيل» عشر مرات في مؤتمرهما الصحفي. وفي المضمون فلا دلالة أكثر من النص الذي بدأ به مراسل CNN في القدس تقريره: 

Donald Trump went into his meeting Monday with Vladimir Putin in Finland deeply concerned about national security. It wasn't the security of American citizens، however، but rather those of Israel that the US President appeared to have on his mind.

نتنياهو لم يوفر جهدا، بل سارع بالخروج إلى «تويتر» ليعلن ترحيبه «بما سمعه في المؤتمر الصحفي … وما تأكد فيه من التزام الطرفين العميق بأمن إسرائيل». 

يحق لنتنياهو أن يفرح. 

*** 

وبعد..

فربما لم يكن المشهد على «مسرح هيلسنكي» غير حلقة فى مسلسل «ترامب / أمريكا» المستمر منذ عامين، والذي لا يكاد يختلف، في إثارته، وتطويله عن مسلسلات الـ soap opera التي يعرفها الأمريكيون.

وربما، كما هي العادة مع تلك النوعية من المسلسلات لا يعرف أحد كيف ستكون أحداث الحلقة القادمة، أو إلى ماذا ستنتهي الحلقة الأخيرة. أو بالأحرى إلى ماذا ستنتهي محاولات حماية «دولة عظمى»، من أفعال رئيسها. كما قرأنا في أعمدة كبار الكتاب الأمريكيين هذا الأسبوع.

فرغم نرجسية، وغطرسة الرئيس، وخطابه الشعبوي الذي يعبث بمفرداته في عقول بسطاء الأمريكيين، ورغم بريق شعاره الشوفيني اللامع؛ الذي لا يختلف عن كل الشعارات التي اختبأ خلف مثلها الترامبيون عبر التاريخ «Make America Great Again»، نجحت آليات الديموقراطية، حتى الآن على الأقل في أن تكبح جماح الرجل الذي اعتبره الكثيرون بعد هلسنكي «التهديد الأول» للولايات المتحدة الأمريكية، ولما تعرفه من قيم.

يبقى أننا قد لا نعرف إلى ماذا ستنتهي محاولات حماية «دولة عظمى»، من أفعال رئيسها. ولكن ربما كان علينا هنا ألا نكتفي بالفرجة على المسلسل المثير، بل أن (نتعلم) دروسه، لنعرف أهمية الدور الذي يمكن تلعبه الصحافة «الحرة»، والبرلمان «المستقل» والرأي العام «اليقظ» في مثل تلك المعركة. 

لهذا، وبسبب هذا وحده تصبح الدول القوية «قوية».

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

لمتابعة الكاتب:

twitter: @a_sayyad

Facebook: AymanAlSayyad.Page

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

روابط ذات صلة:

القيصر .. 

السمسار.. في الشرق الأوسط «الجديد» 

نحن .. وهم .. وهذا الرجل

الدروس الأمريكية

أيمن الصياد  كاتب صحفى
التعليقات