«مللت كرة القدم، لا أستطيع إكمال المباريات، بينما يمكننى مشاهدة خمس ساعات من التنس بشغف». هذا ليس كلام مشجع أو متابع للرياضة، بل كلام الظاهرة رونالدو نوزاريو البرازيلى. جاء حديثه عقب بطولتى اليورو وكوبا أمريكا الأخيرتين، وبعد إجماع من مراقبين ومحليين على انحدار مستوى المتعة وسيطرة الملل على معظم المباريات فى كلتا البطولتين.
ذهب البعض للقول إن الملل أصاب اللعبة حديثا مقارنة مع السنوات الأخيرة، لتنضم إلى هذا الرأى آراء أخرى عدة ممن ذهبوا لانتقادات أكثر تفصيلا فى اللعبة، والسبب أنها تحوّلت إلى صناعة.
ماتت كرة القدم، على الأقل تلك التى أحببناها لم تعد تشبه كرة القدم، تلك اللعبة التى نشر عنها جاليلوا كتبا ومقالات بالعشرات، وكتب عنها مؤرخون، وبكى من أجلها ملايين، لم تعد تعنى وتجذب محبيها الأصليين ــ الفقراء! تلك ليست وجهة نظر حالمة، إنما هى فحوى ما قاله المدرب الأرجنتينى بيلسا ذو السمعة الطيبة فى تطوير خطط فى اللعبة وفضله على جوانب تكتيكية عدة، وذلك فى معرض انتقاده كرة القدم الحديثة ومنظّمى بطولة كوبا أمريكا بين اتحاد أمريكا الجنوبية والولايات المتحدة، «كرة القدم فى الأساس هى ملكية شعبية، والتى يحافظ عليها الفقراء لأنها مصدر وحيد للسعادة فى غياب المال. لم يعد يمتلكها الفقراء».
• • •
يتقاضى اللاعبون مبالغ طائلة من كرة القدم، إلى جانب رواتبهم العالية جدا، يكسبون أيضًا من ريع الإعلانات وحقوق الصور والمكاسب التى تجنيها لهم الشهرة والنجومية. تناسبت طردًا هذه المبالغ مع تحوّل اللعبة إلى صناعة متكاملة، مبنية على أرقام، تحليلات، عدد موظفين أكبر، واستثمارات أكبر من شركات عملاقة.
ذلك كله جعل من اللاعب موظفا قليل الخيارات مضطرا للخضوع لعلاجات معينة، أنظمة غذائية مشددة، سفر بوتيرة عالية، ضغوط إعلامية، واجبات دعائية وتفاصيل كثيرة حوّلته من ذلك اللاعب الشقى الذى أراد الاستمرار بركل الكرة لأطول مدة ممكنة بعد المراهقة، إلى أشبه بمشاهير هوليوود. ذلك لأنها لم تعد مجرد لعبة ورياضة ترفيهية، بل صناعة متكاملة تقدم مادة ترفيهية يتصارع رءوس الأموال حول كيفية استدامتها وتضخيم المال المجنى منها وتوسيع رقعة الجمهور المستهدف خلف الشاشات.
المشكلة فى ذلك، أن المال أصبح هدفًا سابقًا للعبة والفن الكروى وليس العكس. وبالتالى، تتحكم الأندية عن طريق الطواقم التدريبية ومحلّلى البيانات بطريقة لعب اللاعبين أنفسهم. هذا التحكم والسيطرة الأكبر بقدرات اللاعبين وتقنيات اللعب، قلّلا من مساحة الإبداع لدى اللاعبين. وهذا ما صرّح به أخيرا الكثير من اللاعبين، منهم ليونيل ميسى. إذ انتقد استراتيجيات وطرق التدريب الحديثة التى تضع حدودًا كبيرة للاعب، إلى حدّ أنها تمنعه من المراوغة أحيانا. أوليس ذلك من أجمل صفات اللاعب؟ ومن أشهر المدرّبين الذين يضعون حدودًا للاعبين هو الإسبانى بيب جوارديولا.
ليونيل ميسى الذى جمع بين الأمرين معا، كان ربما آخر لاعبى جيل تميّز بالمهارة إلى جانب أنه صاحب النجاعة الكروية وجلب المال بالنسبة إلى المستثمرين ومالكى الأندية، والذى دفع إدارة برشلونة، بعد خلاف معه، إلى تسريب معلومات عن المبالغ التى كان يتقاضاها ميسى عن الإعلانات، والتى وصلت إلى نصف مليار دولار فى العام، كانت لبرشلونة نسبة فى هذه الأرباح.
لكن ميسى قال وهو فى نهاية مسيرته، إن اللاعبين لم تعد لديهم مساحة فى الإبداع، يتبعون تعليمات صارمة من المدربين حول التمرير وكيفية اللعب فى أدق التفاصيل. لم يعد المدرب يضع استراتيجية فحسب، بل يتحكّم فى طريقة لعبهم وعدد تمريراتهم.
هذا الأمر التقنى والسيتيماتيك الذى فُرض على اللاعبين، جعل منهم شبه آلات يتحكم بها مدرب، وهو بدوره تتحكم به إدارة تجبره على اتخاذ قرارات فى جلب لاعبين وتسريح آخرين بناء على أرقام، عدد تمريرات ناجحة، مواضع الحركة وعدد الأهداف المسجّلة.. وهذه الأرقام لا تعكس بالضرورة نمط لعب ومهارة لاعب على حساب آخر، بقدر ما تقدم تقريرًا عن إنتاجية اللاعب. هو إذًا موظف مطالب بالقيام بما هو موكل إليه.
تذمّر اللاعبان البلجيكى كيفين دى بروين والإسبانى رودرى فى تصريحات، كاشفين عن مدى صعوبة حياة لاعب كرة القدم. إذ يقول رودرى فى لقاء صحفى حول لعبه لأكثر من خمسة آلاف دقيقة: «تأتى لحظة يتراكم فيها كل شىء ويصبح الأمر أكثر من اللازم. أنت بحاجة إلى حالتك البدنية للعب، لكن الحالة الذهنية مهمة أيضا. يرى الناس المباراة فقط، ولكن هناك ما قبل المباراة، والتحضير، والسفر، والوقت الذى تمضيه فى الفندق، حيث تكون فى المباراة. مع خالص التقدير، لكنْ هناك شيئا يجب القيام به. هناك المزيد والمزيد من [الألعاب] ولا يبدو أن ذلك سيتوقف. يجب الاعتناء باللاعبين. أنا واعٍ لذلك. لقد وصلت إلى نقطة لم يعد بإمكانى [فعل ذلك] بعد الآن. ولكن يبدو أنك إذا قلت ذلك…».
ثم يتردّد للحظة ويكمل: «انظر، أعلم أن كرة القدم هى عمل تجارى، وأعلم أن هناك الكثير من المال، ولكن هناك نقطة يتعين عليك عندها الاهتمام بالرياضيين».
• • •
كانت لدييجو أرماندو مارادونا، الذى يعد من أكثر المنتقدين لمنظمة الفيفا، تصريحات انتقد فيها تنظيم المباريات فى أوقات تناسب العروض التلفزيونية، «لا أحد يسأل اللاعبين ماذا يريدون، نحن من هم على أرضية الملعب، نحن أساس هذه اللعبة».
كان سبب هذه التصريحات، موعد مباراة فى وقت الظهيرة تحت أشعة شمس قوية جدا، حددته الفيفا هذا لأنه يناسب البث التلفزيونى فى معظم المناطق الزمنية فى مختلف القارات.
الفيفا، ورعاة كرة القدم اليوم، هم المتحكم الأساسى بشكل اللعبة ونوعيتها وتوجّهها. وأصبحت الأرقام هى التى تحدّد اللاعب المهم من اللاعب المهارى، فالأخير يصبح عبئًا على فريقه لأنه لا يقدم إضافة إلى النادى الذى يبحث عن الفوز للأسباب الاقتصادية والمبيعات وليس من أجل أن يستمتع الجمهور ويصفّق، لتعود وتتكرر فكرة أن الكرة الجميلة لا تجلب البطولات.. وبالتالى اللاعب المهارى هو لاعب عاق يرفض تعليمات المدربين فحسب.
الموارد البشرية المتمثّلة فى اللاعبين، وعلى رغم غزارة الأموال التى يتقاضونها، تبقى هى الضحية جسديًا نظرًا إلى تسارع ماكينة الصناعة الكروية الحديثة. وقد وجدنا نتائجها الكارثية فى كل الحوادث الخطيرة التى تعرض لها لاعبون سقطوا أثناء اللعب وكادوا يفقدون حياتهم بسبب الإرهاق المفرط. بينما خارج الملعب، فإن ضحايا هذه المنظومة هم العمال الذين يتعرضون لضغط هائل أثناء بناء المنشآت الرياضية. فيما تتركز الأموال فى أندية معينة على حساب أندية أخرى غير قادرة على المنافسة، وسحب المواهب من الدول الفقيرة فى أمريكا اللاتينية وإفريقيا وبيع عقودها بمبالغ طائلة فى أوروبا.
كانت بطولة السوبرليج نتاجا لهذا الصراع المتصاعد، وطرفاه هما منظمات الفيفا واليويفا من جهة ومالكو الأندية الكبرى من جهة أخرى، إذ لاحظت الأندية الكبرى والأكثر شعبية وشهرة أنها تملك رأس المال الجماهيرى الأكبر فى اللعبة، وهو الأمر الذى يدر الأموال على منظمى اللعبة وأهم أجسامها التنظيمية، والذين بدورهم لا يتوارون عن جلب المعلنين والمستثمرين.
فأين يتّجه هذا الصراع الاقتصادى؟ وما دور الحكومات الأوروبية فى هذا الصراع إذا ما علمنا أنها من أهم القوى الناعمة حديثا؟
بشير أمين
كاتب سورى
موقع درج
النص الأصلى: