شاع مصطلح «دبلوماسية البنج بونج» عام (1971) إثر مصافحة بدت عادية بين لاعبين أمريكى وصينى فى مسابقة دولية جرت وقائعها باليابان.
كانت تلك المصافحة نقطة تحول حاسمة فى العلاقات بين البلدين.
خفضت مستوى التوتر فى جنوب شرق آسيا وأسرعت بإنهاء حرب فيتنام.
فتحت صفحة جديدة فى النظام الدولى، ومهدت لدخول «الصين الشعبية» مجلس الأمن الدولى بديلا عن «تايوان».
وقدمت وزير الخارجية الأمريكى «هنرى كيسنجر» نجما دبلوماسيا فوق العادة.
تدافعت الحوادث بسرعة، كأن المصافحة لم تكن مرتبة ومقصودة.
دعا رئيس الوزراء الصينى «شواين لاى» فريق تنس الطاولة الأمريكى إلى زيارة بكين، وجرى احتفاء زائد.
كان ذلك تمهيدا لزيارة الرئيس الأمريكى «ريتشارد نيكسون» إلى العاصمة الصينية عام (1972) ولقاء زعيمها «ماو تسى تونج».
كانت أمريكا تبحث عن فرص ممكنة للخروج من المستنقع الفيتنامى والصين تعمل على فتح آفاق حركة جديدة على المسرح الدولى.
استلهمت مجددا «دبلوماسية البنج بونج» فى حفل افتتاح مونديال (2022) بالعاصمة القطرية الدوحة بالمصافحة التى جرت بين الرئيسين المصرى «عبدالفتاح السيسى» والتركى «رجب طيب أردوغان».
لم تكن المصافحة عفوية، كل شىء كان مرتبا فى مشاهده مقصودا بأهدافه لإنهاء سنوات طويلة من الجفاء السياسى والشخصى.
للدولتين مصالح أمنية واستراتيجية فى تخفيض مستوى التوتر بينهما قبل الانتقال إلى الخطوة التالية.. تطبيع العلاقات بالكامل.
بالنسبة لمصر فإن حدودها الغربية مسألة أمن قومى خشية أن تتمركز فيها جماعات عنف وإرهاب مسلحة وغاز البحر المتوسط أولوية ثانية ثم يأتى بعد ذلك مصالحها المشروعة، كما كل الدول المتداخلة الأخرى، فى ملف إعمار ليبيا بعد التوصل إلى تسوية سياسية مستقرة.
بمعنى ألا تنفرد بكعكة الإعمار دولة واحدة توقع عقودا مطعونا فى شرعيتها.
وبالنسبة لتركيا فإن تخفيض مستوى التوتر مع مصر يساعد الرئيس الحالى فى الانتخابات الرئاسية المقبلة، فالمعارضة تحمله مسئولية تسميم العلاقات والانخراط فى أزمات إقليمية مع مصر ودول الخليج بلا ضرورة أو داعٍ.
من حيث التوقيت هناك معضلة جوهرية تعترض «أردوغان»، فهو من ناحية يتطلع للعب دور جوهرى كوسيط مقبول من طرفى الحرب الأوكرانية، بما يرفع من مستوى وزنه الدولى، وهو من ناحية أخرى فى حال انكشاف أمنى بالتورط المحتمل بمواجهات عسكرية واسعة عبر الحدود مع الأكراد فى العراق وسوريا معا دون أن يتوفر لديه أى غطاء دولى روسى أو أمريكى، على ما يصرح ويشتكى.
بالضرورات الضاغطة: نحن أمام الخطوة قبل الأخيرة لتطبيع العلاقات المصرية التركية.
كلا البلدين يحتاج أولا وقبل كل شىء ألا يتصادم مع الآخر فى الظلام.
التحوط ضرورى قبل أية استنتاجات فى أمرين رئيسيين.
إذا لم تتم تسوية عادلة للأزمة السورية فإن عوامل التفجير تظل ماثلة فى المكان.
وإذا لم تنظر أنقرة للأزمة الكردية بمقاربة جديدة، أو أن تكف عن استخدامها كفزاعة لاستقطاب المشاعر فى صناديق الاقتراع، فإن أى استقرار صعب المنال.
لا يعنى التفاهم شبه الممكن أن الأزمات بين البلدين سوف تختفى بضغطة زر.
ما حدث بالضبط فى حفل افتتاح المونديال تأكيد جديد على ضرورات التهدئة والتطبيع لا أكثر من ذلك فى اللحظة الحالية.
يكفى الالتفات إلى أن اتصالات على مستوى أمنى استغرقت وقتا طويلا نجحت فى نزع ألغام عديدة بملف «الإخوان المسلمين»، لكن ذلك لم يكن كافيا لعودة العلاقات الدبلوماسية، أو التقدم إلى الأمام فى طلب المصالحة، ثم أخيرا بدا التعثر فادحا على خلفية أزمة الغاز فى البحر المتوسط.
كان توقيع اتفاقية تركية جديدة مع حكومة «عبدالحميد الدبيبة» داعيا لتأزيم جديد فى الصراع على غاز البحر المتوسط كاد ينسف أية آمال معلقة على فرص المصالحة الداخلية برعاية أممية، وينسف بالوقت نفسه أية رهانات لتجاوز حقول الألغام فى العلاقات المصرية التركية.
هكذا فإن هناك ضرورات أمنية وإقليمية استدعت العودة مجددا لبحث التقدم إلى الأمام فى المصالحة.
كانت «دبلوماسية البنج بنج» مدخلا مناسبا فى محفل رياضى لإزاحة الشكوك المتبادلة.
بالتعريف فإن الرياضة ليست ميدانا سياسيا، لكنه لا يمكن عزل ما هو رياضى عما هو سياسى.
هذا وهم كامل.
لأسباب سياسية مباشرة ألغيت المشاركة الروسية فى مونديال قطر على خلفية الأزمة الأوكرانية.
القرار سياسى من أوله لآخره ولا علاقة له بأية قواعد رياضية.
وقد كانت دواعى المنتخب الإيرانى لعدم ترديد النشيد الوطنى قبل مباراتهم مع إنجلترا رسالة سياسية عن عمق أزمة الاحتجاجات الداخلية والحاجة لمقاربات جديدة تستبعد الحلول الأمنية وتستجيب لما هو مشروع من حقوق.
إنكار الأزمة لا يساعد على حلها.
هذه حقيقة ثابتة.
أسوأ ما يجرى من وقت لآخر فى ميادين الرياضة التوظيف السياسى للحماس الجماهيرى لغير طبيعة أهدافها.
أثناء فتنة مباراة كرة القدم بين مصر والجزائر (٢٠٠٩) المؤهلة لمونديال جنوب إفريقيا (2010) وصلت حملات الكراهية المتبادلة إلى التنابز بالأوطان واختلاق الوقائع والقصص المحرضة على القتل.
بدا أن الهدف إخفاء فشل النظامين تحت غبار مباراة كرة قدم.
كان ذلك مثالا لانتهاك أية قيم إنسانية وأخلاقية وسياسية فى المساحة ما بين السياسى والرياضى.
كانت مصر قد رشحت نفسها لتنظيم ذات البطولة.
أشرف الزعيم الجنوب إفريقى «نيلسون مانديلا» على ملف بلاده.
وصف فى دوائر الحكم هنا بأنه «شوية كراكيب» ــ على ما روى لى الأستاذ «محمد حسنين هيكل» نقلا عن مسئول كبير متصل بالملف فى منتصف مايو (٢٠٠٤).
بدا «هيكل» منزعجا من العبارة وحماقاتها: «الرجل وراءه أسطورة».
كان ذلك استهتارا مروعا بقيمته ورمزيته فى العالم دفعت مصر ثمنه موجعا فى «صفر» المونديال.
من مفارقات التاريخ أن نظام الحكم، الذى استهتر بـ«مانديلا»، سقط فى (١١) فبراير (٢٠١١) بعد واحد وعشرين عاما باليوم من إطلاق سراحه وتكريسه زعيما استثنائيا.
لم يكن الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة الدكتور «بطرس غالى» مقتنعا بأن هناك فرصة أمام مصر لتنظيم البطولة الدولية، صارح الرئيس «حسنى مبارك» برأيه.
قال «مبارك»: «قل لجمال»!
فى اليوم التالى غادر مصر إلى باريس.
هكذا كانت تجرى الأمور.
كانت تلك رسالة تبددت فى الفراغ قبل صدمة «صفر المونديال».
طوال الوقت تطارد اتهامات الرشى والفساد الفيفا، تكشف أو تحجب بمقتضى مصالح وحسابات الدول الكبرى.
الأفلام الوثائقية التى أعدت قبل مونديال قطر شككت فى جدارتها بتنظيم البطولة الدولية باتهامات تقديم رشى لقيادات «الفيفا» لم يقم عليها دليل قطعى حتى الآن، ولا أجريت بشأنها تحقيقات.
باليقين الفيفا غارق فى الفساد وأعداد كبيرة من قياداته جرى اقتيادها للمحاكم بتهمة تلقى رشى خاصة فى عهد «جوزيف بلاتر».
الشبهات المتواترة معلقة فوق استادات البطولة، حتى اتهمت قطر بأنها اشترت كل شىء.
باليقين أيضا فقد نجحت بتنظيم المونديال (2022) بأكثر مما هو متوقع، رغم الانتقادات التى نالتها من المبالغة فى الإنفاق، الذى وصل إلى (220) مليار دولار، الرقم بذاته يفوق كل خيال ويكفى ويزيد لانتشال العالم العربى من وهدة أزماته الاقتصادية الماثلة.
وكان الإفراط فى الخطاب الدينى داعيا آخر للانتقاد، فالمناسبة رياضية لا دينية.
بصورة لافتة حرصت قطر على تأكيد انها تمثل العرب كلهم، ولا تمثل نفسها فقط.
كانت تلك إشارة إيجابية لاقت عوامل صدقيتها فى الاحتفاء العربى الجماعى والشعبى، بعيدا عن حسابات الأنظمة وتناقضاتها، لفوز بعض المنتخبات العربية فى الجولة الأولى من دورى المجموعات.
كانت تلك الرسالة السياسية الأهم فى مونديال (2022).
أننا شعب عربى واحد، مشاعره موحدة فى اختبارات الفرح الجماعى والحزن الجماعى، وأننا قادرون أن نتجاوز الدونية المخيمة إذا ما امتلكنا الثقة فى أنفسنا وأسباب التفوق والتقدم فى ميادين الرياضة وغيرها من الميادين.