تستيف الحمولة.. وسلامة السفينة - محمد عبدالمنعم الشاذلي - بوابة الشروق
الأحد 12 مايو 2024 9:48 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

تستيف الحمولة.. وسلامة السفينة

نشر فى : الخميس 24 أغسطس 2023 - 7:25 م | آخر تحديث : الخميس 24 أغسطس 2023 - 7:25 م

فى الأكاديميات البحرية، التى تعد الطلبة ليصبحوا ضباطا وقباطنة للسفن فى أعالى البحار، يُدرّس فيها علم اسمه Cargo Work أو تناول البضاعة. يتناول هذا العلم أسلوب تستيف البضاعة فى عنابر السفينة بشكل متوازن لا يؤثر على استقرار السفينة ولا يخل باستوائها فيهددها بالانقلاب والغرق.
وإن تخيلنا كوكب الأرض سفينة تسير مع قافلة السفن التى تشكل المجموعة الشمسية فى رحلتها حول الشمس ثم تمخر عباب درب التبانة مع الشمس، واعتبرنا أن ثروات الأرض هى الحمولة التى على متنها، لحرصنا على سلامة سفينتنا التى هى مأوانا وملاذنا الوحيد. علينا أن نراجع تستيف البضاعة عليها وهل تحقق التوازن الذى لا يخل باستوائها ويهدد بانقلابها. والبضاعة التى نعنيها هنا هى الثروة على الأرض وتوزيعها وهل تحقق التوازن المطلوب أم لا.
• • •
عند المراجعة سنجد حقائق مزعجة تهدد سفينتنا بالانقلاب والجنوح مثل أن 50% من البضاعة التى تحملها ــ وهى الثروة ــ تتركز فى يد 1% من السكان وأن الأمر لا يتجه إلى الإصلاح بل إلى التفاقم، لأن الأقلية التى تتمثل فى 1% استأثرت بثلثى الثروة الجديدة التى تحققت منذ عام 2020 والتى تبلغ 42 تريليون دولار أى يزدادون ثراء على حساب الفقراء وتستمر الفجوة بين الأغنياء والفقراء فى الاتساع.
هناك أيضا عدم توازن فى توزيع الثروة جغرافيا، فأثرى عشر دول من حيث متوسط الدخل السنوى للفرد تبدأ بدوقية ليخشنشتاين حيث يبلغ 129 ألف دولار، وفى المركز العاشر الدنمارك بـ66 ألف دولار، والدول العشر ست منها أوروبية أما الأربع الباقية هم الولايات المتحدة، وأستراليا، وقطر، وسنغافورة.. بينما العشر دول الأفقر من حيث متوسط دخل الفرد السنوى فجلها فى قارة أفريقيا، ويلاحظ أن أكبرهم دخلا هى الكونغو بمبلغ 704 دولارات أى أن متوسط الدخل فى أدنى الدول العشر الغنية يمثل أكثر من 93 ضعف أكبر من العشر الأفقر دخلا!.
ولعل أخطر ما فى الأمر أن الثروة والثراء لم يقتصرا على الحياة المترفة وحدها بل صارت أداة للنفوذ والسيطرة والهيمنة والقهر، فالولايات المتحدة تنفق قرابة التريليون دولار على التسلح ودشنت فى العام الماضى حاملة الطائرات النووية جيرالد «فورد» التى بلغت تكلفتها 14 بليون دولار وهو أكبر من الدخل القومى السنوى لدول مثل تشاد، وتبلغ تكلفة الغواصة النووية حاملة الصواريخ 3 بلايين دولارات، وتكلفة الطائرة المقاتلة الحديثة أكثر من 150 مليون دولار وهى تكلفة تفوق قدرة الدول الفقيرة فتركزت القوة العسكرية فى الدول الثرية، ولم تكتفِ الولايات المتحدة بذلك بل انخرطت فى حلف عسكرى مع الدول الثرية الأخرى فى أوروبا وكندا وهو حلف شمال الأطلنطى.
يضاف إلى ذلك أن الشرعية الدولية والسماح بشرعية القوة المسلحة مناط بمجلس الأمن وأعضائه الخمسة الدائمين وجلهم من الدول الثرية، ومما يزيد الأمر جسامة أن الدول الثرية تمتلك شبكة هائلة من أجهزة الإعلام والدعاية تقوم بعملية غسيل أدمغة جماعية لتهيئة الرأى العام فى العالم لقبول أفعالها، وتصوير موقفها بأنه الحق المطلق الذى يتيح لها استخدام القوة تحت غطاء سياسى وإعلامى.
ومن المقدر أن تتسع الفجوة بين الأغنياء والفقراء بتركز العلم والتكنولوجيا لدى أصحاب الثروة ــ حيث تتركز الجامعات ومراكز الأبحاث ــ بعد أن صار البحث العلمى باهظ التكلفة ويحتاج إلى البلايين، فأبحاث الفضاء وإطلاق المركبات الفضائية والتلسكوبات الفضائية تكلف البلايين، والمعجل التصادمى فى الأبحاث النووية يكلف البلايين، وصناعة الكومبيوتر الكمومى وأبحاث الذكاء الاصطناعى تكلف البلايين، وأبحاث الهندسة الوراثية والخلايا الجذعية تكلف البلايين، ولا قبل بالدول الصغيرة بتحمل نفقاتها وستؤدى هذه التطورات العلمية إلى تغيير فى شكل الحياة على الأرض وتؤدى إلى عدم توازن خطير بين الأثرياء والفقراء، ويهدد ذلك بخلق علاقة بينهما مثل العلاقة التى بدأت مع بداية الكشوف الجغرافية والفتوحات الإمبريالية عندما سيطر الأوروبيون على السكان الأصليين فى أمريكا وأستراليا بواسطة الأسلحة النارية، وقهر الإنجليز قلائل الزولو، وثورة المهدى فى أفريقيا بواسطة المدفع الرشاش الذى حصدهم حصدا، ولعل عدم التوازن فى القوة مع عصر المسيرات والصواريخ أصبح أفدح مما كان. هذا ما تكدس فى جانب الأغنياء، فماذا تكدس لدى الفقراء؟ تكدس لديهم الفقر والجهل والأمراض من ملاريا وإيدز وحمى صفراء، وأمراض سوء التغذية، وسوء الحكم وسوء الإدارة، والعنصرية، والقبلية.
• • •
مما يزيد الأمر ضغثا على إباله اتجاه بدأ يسود فى الغرب بالتحذير من التزايد السريع فى عدد سكان الأرض الذى تجاوز الثمانية بلايين وهو أمر لا غضاضة فيه، إلا أنه تجاوز ذلك بإدانة سكان العالم الثالث على كل الشرور من تلوث البيئة والاحتباس الحرارى واستهلاك موارد الأرض الطبيعية، رغم أننا ورثنا البيئة الملوثة والتغير المناخى من آثار الثورة الصناعية التى قامت فى الغرب وحرقت الوقود الأحفورى فاستهلكت الموارد بالصيد الجائر فى البحار والزراعة والرعى المكثف اللذين استنزفا التربة.
بدأت نزعة النظر إلى سكان العالم الثالث على أنهم أسراب الجراد التى تحط على الزرع فتقضى على الأخضر واليابس والتحذير من تزايد سكانهم بينما سكان الأغنياء فى نقصان، وبدأت حوارات عن كيفية اختزال سكان الأرض إلى النصف دون تحديد وسيلة ذلك. ولعل سكان العالم الثالث يحملون بعض الوزر بانقساماتهم وحروبهم الداخلية والفساد المستشرى الذى يبدد الثروة ويجعلهم يرمون بأنفسهم إلى التهلكة للوصول إلى شواطئ الدول الثرية ليقتحموها بشكل غير شرعى يهدد الاستقرار والأمن والرخاء بها.
لا يمكننا فى هذا الصدد إغفال الشركات متعددة الجنسيات العملاقة التى تعمل عبر الحدود الدولية وتتجاوز إمكاناتها إمكانات الكثير من الدول المتوسطة بحيث أصبحت تمثل لاعبا أساسيا على الساحة الدولية. كما تمثل هذه الشركات قوة ضغط هائلة بعد أن صارت تسيطر على الاتصالات وجمع المعلومات واختراق الخصوصيات والداخليات، وتمتد أنشطة وفروع الشركات العملاقة فى الدول النامية والفقيرة وتوظف أبناءها وتقدم لهم مرتبات ومزايا تجعلهم مترفين ومميزين بين أقرانهم ويتحول ولاء الكثير منهم إلى الشركة دون بلدهم، ولعل الأخطر أن هذه الشركات باتت تشترى المسئولين والحكام والأحزاب السياسية ليخدموا أغراضهم ولو كانت على حساب شعوبهم. ولقد شهد التاريخ هذه الظاهرة فى أكثر صورها فجاجة فى جمهوريات الموز فى أمريكا الوسطى التى كان حكامها بمثابة موظفين فى شركة الفواكه المتحدة United Fruit Company.
ولقد حاولت بعض الدول وبعض الزعماء التحرر من هذا الوضع البائس لبلادهم والخروج من هذه الدائرة المفرغة وبناء دولة وطنية يسود فيها العدل والمساواة فتصدى لهم عراب الرأسمالية: الولايات المتحدة بإدارتها الشيطانية: وكالة المخابرات المركزية CIA فأجهضت حركة محمد مصدق فى إيران سنة 1953 بعد أن أمم البترول ثم دبرت انقلابا فى العام التالى 1954 فى جواتيمالا ضد رئيسها المنتخب ديمقراطيا Jacobo Arbenz الذى تمرد على شركة الفواكه المتحدة ودعم اتحادات العمال وتوجه توجها اشتراكيا، وفى عام 1966 أخلصت بانقلاب من الزعيم الأفريقى العظيم كوامى نكروما رئيس غانا بعد أن نشر كتابه «الاستعمار الجديد آخر مراحل الإمبريالية» الذى فضح فيه سياسات الدول الإمبريالية تجاه مستعمراتها السابقة التى استقلت عنها. ثم قتل رئيس شيلى الاشتراكى المنتخب ديمقراطيا سلفادور الليندى فى عام 1973 فى انقلاب دموى راح ضحيته الآلاف. وما زالت منذ أكثر من 60 سنة تحاول إسقاط الحكم الاشتراكى الذى أقامه كاسترو فى كوبا لكنه استعصى عليها.
• • •
وماذا بعد أن أظهرت المعاينة سوء توزيع الحمولة فى داخل السفينة كوكب الأرض بشكل يخل بتوازنها ويهدد بانقلابها وغرقها، بل يوضح خطورة تفاعل الشحنة المتنافرة بين المتخمين بالثراء والمعدمين من الفقر بحيث تهدد شررة شاردة بتفجيرها وفنائها. هل يتنبه العالم ويعمل على نزع الفتيل من هذا المزيج الخطر وتعديل أحمال الشحنة بشكل يحقق التوازن أم تستمر المكابرة والنزف حتى تغرق السفينة بمن عليها؟
عضو المجلس المصرى للشئون الخارجية
الاقتباس:
سنجد حقائق مزعجة تهدد سفينتنا بالانقلاب والجنوح مثل أن 50% من البضاعة التى تحملها ــ وهى الثروة ــ تتركز فى يد 1% من السكان وأن الأمر لا يتجه إلى الإصلاح بل إلى التفاقم، لأن الأقلية التى تتمثل فى 1% استأثرت بثلثى الثروة الجديدة التى تحققت منذ عام 2020.

محمد عبدالمنعم الشاذلي عضو المجمع العلمي المصري
التعليقات