بيروت.. وظائف عدة ودور واحد - العالم يفكر - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 4:42 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

بيروت.. وظائف عدة ودور واحد

نشر فى : الأحد 25 أكتوبر 2020 - 9:20 م | آخر تحديث : الأحد 25 أكتوبر 2020 - 9:20 م

نشرت مؤسسة الفكر العربى مقالا للكاتب فريدريك معتوق، عدّد فيه وظائف بيروت بين مرفئية واستهلاكية وصحية وثقافية، كما ذكر فيه دورها الثقافى المعرفى الذى ميزها فى المحيط العربى.. جاء فيه ما يلى:
لا يُميّز عِلم الاجتماع عن عَبَثٍ بين مفهومَى الوظيفة والدَّور. فالأوّل يَتناول مهمّاتٍ عملانيّة متنوّعة، فى حين أنّ الثانى يشير إلى توجّهٍ مُرتبطٍ بهدفٍ إنسانى عام وأبعد.
هكذا كانت بيروت. كانت أكبر من مجرّد مدينة وعاصمة، لأنّها احتوت بروحها بلدا صغيرا اسمه لبنان وأمّة ثقافيّة اسمها العالَم العربى. فعندما كان يُقال بيروتى، حتّى منتصف السبعينيّات من القرن الماضى، كان المقصود مُشابِها لما تعنيه كلمة باريسى أو لندنى.
عُرفت بيروت بوظائفها المتعدّدة والناجحة، بيد أنّ دَورها التواصلى، الثقافى والمعرفى، بين الشرق والغرب، قد رسمَ دَورها الكوزموبوليتى المتميّز.
الوظيفة المَرفئيّة لبيروت
الوظيفة المَرفئيّة هى الوظيفة الأولى التى عرفتها بيروت، والتى تعود جذورها إلى الزمن الفينيقى، حيث كان سكّان مَمالكه الصغيرة يجوبون نواحى المتوسّط كلّها للتجارة بالسلع والبضائع. ألَم يقل هوميروس عن هؤلاء الرجال فى «الأوديسّة»:
«ثمّ جاء الفينيقيّون فى سفنهم السوداء، وهم بحّارة عتاة
وتجّار شرهون، يحملون على مَتن سُفنهم ألف سلعة رخيصة».
ثمّ اتّهمهم بخطْف عوليس، وعندها بدأ السفر ــ المُغامَرة العظيمة لهذا الإغريقى الشهير.
وفى السياق نفسه، أشار بعد حين المؤرِّخ هيرودوت إلى أنّ الفينيقيّين كانوا يُتقنون لغة الإغريق واللّغات المحلّيّة لجميع الشعوب الذين كانوا يتعاملون معهم، فى حين أنّ لا الإغريق، ولا الرومان لاحقا فى زمن قرطاجة، كانوا يلمّون باللّغة الساميّة التى كان ينطق بها الفينيقيّون فى ما بينهم؛ الأمر الذى كان يُحسب لمَهاراتهم المعرفيّة المُرافِقة لمَهاراتهم المِلاحيّة والتجاريّة.
وما زالت بيروت تحمل فى جيناتها المعرفيّة هذا التقليد.
تواصَل هذا التقليد مع إنشاء مرفأ بيروت الحديث فى مُنتصف القرن التاسع عشر، فى شراكة لافتة مع مرفأ مرسيليا الفرنسى. ومن هذا التواصُل تولّد بُعيد انتهاء الحرب العالَميّة الأولى توسُّع لأسواق بيروت.
الوظيفة الاستهلاكيّة الجديدة
عندما أُنشئت دولة لبنان الكبيرة فى العام 1920 تحت الانتداب الفرنسى، لاحَظ الفرنسيّون أنّ مهمّة الاختراق الاقتصادى خاصّتهم، كانت تحتاج إلى استراتيجيّة مُتناسبة مع الوقائع الميدانيّة المحلّيّة؛ إذ كانت أسواق بيروت قائمة وزاهرة، لكنْ تقليديّة. لذلك أدركوا أنّ مهمّتهم التنافسيّة لا ينبغى أن تقوم على تدمير أسواق المدينة التقليديّة، بل على مُجاورتها.
فبنى الفرنسيّون سوقا مُوازية، أحْدَث وأتْقَن عمرانا من الأسواق القديمة، عُرفت بالمَعرض (شارع المَعرض الحالى) كى تُعرَض فى محلّاتها السلع الفرنسيّة المُصنَّعة، ومن أبرزها سلع «النوفوتيه» الباريسيّة، النسائيّة على نحو خاصّ (ألبسة خارجيّة وداخليّة على السواء، المُرافِقة لمفهوم الموضة، علاوة على أدوات التجميل). وقد ازدهرت بسرعة هذه السوق المُوازِية التى كان قد صمَّمها فى الأصل مُهندسان فرنسيّان (Les frères Danger) لاسم عائلتهما دلالة كبيرة لكونه يعنى بالعربيّة «خَطَر»...!
هنا دشّن الأوروبيّون منظورهم الجديد للتواصُل الاستهلاكى الثقافى الجديد فى أوّل عاصمة عربيّة مشرقيّة (وهو ما زال مُعتمدا فى صيغة «البولفار» الأمريكيّة فى الكويت مثلا اليوم) حيث شكّلت سوق المعرض الفرنجى فى بيروت مطلع القرن العشرين تجربة اختراق ثقافى ناعم، أنْفَع وأفْيَد من كلّ الاحتلالات العسكريّة، حيث يلتقى الطرفان على مصلحة مُشترَكة. فكانت بيروت مُختبرا لتسويق أنموذج إرشادى جديد للمرأة العربيّة حصّة ولو رمزيّة فيه.
الوظيفة الثقافيّة
كانت هذه الوظيفة قد أبصرت النور قبل نصف قرن، مع إنشاء الجامعة الأمريكيّة فى بيروت عام 1866 وبعدها جامعة القدّيس يوسف للآباء اليسوعيّين عام 1875؛ حيث بدأ استقطاب طالبى الشهادات العِلميّة العليا من لبنان ومن جميع الدول العربيّة المُجاوِرة. صار معها القدوم إلى بيروت مُرادفا للانفتاح على ثقافة حديثة وجديدة مُختلفة تمام الاختلاف عن الثقافة العثمانيّة الضحلة والعقيمة السائدة فى ما كان يُعرف بالولايات العربيّة من السلطنة. صارت أفكار التنوير الأوروبى واردة فى الأحاديث والمُنقاشات الدائرة بين المثقّفين، ونشأ مفهوم المثقّف العربى الجديد فى خضمّ هذا التلاقُح الأكاديمى المُستجدّ وتداعياته.
صارت المَطابِع مشغولة بنقْل هذه المادّة الفكريّة الجديدة والمطلوبة بقوّة من قِبَل جمهور محلّى وعربى عامّ شغوف بالتغيير والتجديد. لكنّ دائرة الاهتمام الثقافى بقيت هنا محصورة ضمن «نخبة» ميسورة رغبت التشبّه بالغرب المُسيطر وبتقديماته الحضاريّة الحديثة الجذّابة. لذلك جاءت هذه الوظيفة محصورة الانتشار وحلّت فى المرتبة الثانية من حيث وقْعها الاجتماعى العامّ بعد وقْع سوق المعرض الذى تمكّن من التأثير عميقا فى الأذواق الثقافيّة الشعبيّة البيروتيّة، ثمّ اللبنانيّة بعامّة مع انتشار محلّات «النوفوتيه» ورواجها الكبير بعد عقدَين من الزمن داخل الأسواق القديمة فى طرابلس وصيدا وزحلة والنبطيّة.
الوظيفة الصحيّة
تمكّنت بيروت أيضا من التميُّز على مستوى الوظيفة الصحيّة التى رافقت إنشاء جامعتَى الأمريكيّة واليسوعيّة الضامَّتَيْن كلّياتٍ للطبّ والصيدلة، فازدهرت المُستشفيات الحديثة اللّبنانيّة منذ مطلع القرن العشرين جاذبةً جمهورا من طالِبى العلاج من لبنان ومن عدد من البلدان العربيّة المُجاوِرة.
إلى جانب مستشفى الجامعة الأمريكيّة ومستشفى أوتيل ديو، سرعان ما اشتهر مستشفى القدّيس جاورجيوس، ثمّ كوكبة واسعة من المُستشفيات الخاصّة الأصغر حجما، بحيث تكاملت الوظائف الاقتصاديّة مع مثيلاتها التجاريّة والأكاديميّة والصحيّة، فصارت الإقامة فى بيروت عنوانا للرفاهيّة والتفرنُج والتنعُّم بوسائل الراحة المنشودة للّبنانيّين من أنحاء البلاد كافّة، كما للعرب المَيسورين من كلّ البلدان العربيّة.
ومن حيث لا تدرى، أدّت بالتدرّج جميع هذه الوظائف إلى تعميق الصلات بين بيروت والعُمق العربى الذى صار يرى فى هذه المدينة غير التقليديّة أنموذجا إرشاديّا يستحقّ الاستيراد لقربه الجغرافى والاجتماعى، على الرّغم من «اغترابه» الثقافى وابتعاده المتعمّد عن نماذج التراث والأصالة، كما كانت تُفهَم فى ذلك الوقت.
فرادة الدَّور
نتيجة لهذه الوظائف جميعها، فضلا عن تدفُّق إثنيّات متعدّدة، كالأرمن الهاربين من البطش العثمانى والروس الهاربين من الثورة البولشيفيّة والأكراد الهاربين من الفقر فى مناطقهم الصحراويّة النائية، تبلورت حالة اجتماعيّة متنوّعة وشغوفة بالحريّة والأمان السياسى الذى استقطب بدَوره عددا كبيرا من اللّاجئين السياسيّين الهاربين من عسف أنظمتهم. أدّى كلّ ذلك إلى التشابُك وإنتاج نمط عيش مُختلف عن المُحيط العربى العامّ السائد فى الخمسينيّات والستينيّات من القرن الماضى. فغدت بيروت عاصمة ثقافيّة عربيّة أولى، تحمل طوعا راية النهضة العربيّة التى لم تَبُخ، ومُزمِعة على لعبِ دَورٍ تحريرى فى منطقة تُهيمِن عليها ديناصورات سياسيّة بلديّة واعتداءات إسرائيليّة مُستدامَة. لذلك تحوّل الشباب البيروتى مطلع السبعينيّات إلى مُدافِع مثقّف وشرِس عن القضيّة الفلسطينيّة، بفئاته الاجتماعيّة كافّة (ميسورون وغير ميسورين من أبناء المُدن كما من أبناء الريف)، وراح الدَّور الثقافى العمرانى الملتزم المرفوع فى بيروت يشكِّل مَصدر خشية حقيقيّة لإسرائيل، كما للمحيط السياسى المُتحجّر.
كان عندها دَور بيروت ناضجا وقادرا على تحقيق نقْلة نوعيّة لبنانيّا وعربيّا على السواء. فكمن لها أعداؤها المُعلَنون وغير المُعلَنين وأوقعوها فى الحرب الأهليّة طوال عقدَين من الزمن شاركَ الجميع فى القضاء على دَور بيروت العمرانى (بالمعنى الخلدونى للكلمة) المتميّز والعربى الطليعى الفريد.
ومنذ ذلك الحين تتالت فصول الخسارات، وهى خسارات للّبنانيّين أوّلا، لكنّها أيضا خسارات للعرب أجمعين فى المقام الثانى.
بعد خسائر المرحلة الأولى من الحرب الأهليّة الساخنة (1975ــ 1990) جاءت خسائر الحرب الأهليّة الباردة (1990ــ 2020)، وكلّها خسائر فى العمران البشرى البيروتى، شارك فيها اللّبنانيّون وغير اللّبنانيّين، تحت رايات مُختلفة ضَربت الوظائف السابقة الواحدة تلو الأخرى، فتراجعَ المستوى التعليمى وضمُر الاقتصاد وتعفّنت السياسة وخَفَتَ الإبداع وازدادت هجرة الشباب إلى الخارج وتردّت الأخلاقيّات، فضاعَ الدَّور. هذا الدَّور الذى عملت أجيال عدّة، منذ عصر النهضة العربيّة حتّى عشيّة الحرب الأهليّة على بنائه حَجَرا حَجَرا. لم يكُن من السهل بناء هذا الدَّور الفريد من العمران البشرى العربى المتقدّم فى بيروت. فقد استغرق قرنا كاملا من التضحيات والجهود حيث قام الأهل المتعلّقون فى سلوكهم بإرث العادات والتقاليد الاجتماعيّة العربيّة بشكل مُدرَك لدى المُسلمين، كما بشكلٍ غير مُدرَك لدى المسيحيّين، بتربية أولادهم على النمط المعيشى الغربى وعلى خلفيّة تبنّى الأنموذج الإرشادى الأوروبى وتعلّم اللّغات الأجنبيّة.
وسار المناخ الثقافى العامّ فى بيروت ولبنان مقتنعا بهذه الإقامة فى البَين بَين الشرقى ــ الغربى فى الشئون كافّة. وقد رجّح الكفّة فى هذه العمليّة نموّ مُجتمع مدنى يقوم على طبقات وسطى واسعة، صَنعت نفسها بنفسها، منذ عهد الانتداب الفرنسى حتّى غدت تحتلّ 67% من مجموع القوى العاملة اللّبنانيّة عام 1974.
لكنّ الحروب الأهليّة، الساخنة والباردة، المُغذّاة دوما من الخارج، عطّلت حضور الطبقات الوسطى، المائلة دوما إلى الوسطيّة فى السياسة، ثمّ ضربتها فحدَّتها، بحيث أضحت اليوم واهنة ولا تحتلّ إلّا 15% من مجموع القوى العاملة. وهنا تحديدا يكمن قلب المشكلة. فالوجه الاجتماعى لبيروت تبدّل وبات الفقر والفقر المقنَّع مُسيطرَيْن على نسيجه الاجتماعى.
هنا يبرز التساؤل الإشكالى الأكبر؛ فمن ذا الذى يدير منهجيّا، ومن بعد، هذا الانحدار المُتواصِل نحو التخلُّف الحضارى فى بيروت؟ فهل إنّ هذا التسلسُل المُتواصل فى الاختلال الاجتماعى والاقتصادى والسياسى، على مدى خمس وأربعين سنة، قد حصل بالمُصادَفة؟ وهل العمران البشرى العربى الطليعى والعنفوان الثقافى الكوزموبوليتى لبيروت هو المُستهدَف؟ سأجيب من زاوية أخرى، مذكِّرا بأنه ليس من باب المُصادَفة فقط، أنْ نَبتت أسطورة طائر الفينيق على أرض لبنان وعاصمتها بيروت.

التعليقات