الكلمات والنساء - العالم يفكر - بوابة الشروق
الثلاثاء 16 أبريل 2024 12:52 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الكلمات والنساء

نشر فى : الثلاثاء 26 أكتوبر 2021 - 10:15 م | آخر تحديث : الثلاثاء 26 أكتوبر 2021 - 10:15 م
نشرت مؤسسة الفكر العربى مقالا للكاتب المغربى «المهدى مستقيم» تناول فيه ما يمكن أن تعكسه الكلمات من وضع المرأة داخل المجتمع، وما يحدث فى المؤسسات الاجتماعية والسياسية من سيطرة للغة الذكورية عليها وإزاحة للغة النساء... نعرض منه ما يلى:
تحتوى اللُغةُ بما هى نظامٌ رمزى مضمَناتٍ علائقية تفاعلية اجتماعية، ومن ثم فإنَ القول بحيادها أمرٌ مستحيل. فهى تحتوى روابط قوامها الصراع والتصادُم. تقول «مارينا ياغيلو» فى كِتابها: «الكلمات والنساء»، الصادر حديثا عن منشورات المركز الثقافى للكتاب، بيروت، 2021، بترجمةٍ من الناقد والأكاديمى المغربى سعيد بنكراد: «الغاية من اللُغة ليست هى دائما تيسير التواصُل، فهى أداة للرقابة والكذب والعنف والاحتقار والقمع، وهى أيضا أداة للمتعة والالتذاذ واللَعب والتحدِى والتمرُد. فقد تكون تارة مستودعا لكل المكبوتات وقد تكون تارة أخرى متنفَسا أو وسيلة للتحرُر».
تتأثر علاقةُ الفرد باللغة بطبيعة علاقته بالمُجتمع وبمعايير التنشئة الاجتماعية المُتصلة بمُحددات: الطبقة، والجماعة الإثنية، والسِن، والمِهنة، والمنطقة، ومعايير التمايز الجنسى. ومن أجل ذلك، تُراهِن «مارينا ياغيلو» على فحص الشَرط الأنثوى وفق مُقاربةٍ سوسيولسانية، وذلك بتوسُل مَنهجٍ علمى دقيق يحتلُ فيه مُتغيِر الجنس موقع الريادة. غير أنَ تركيزها على المُتغيِر ذاك لم يمنعها من الانفتاح على باقى أشكال التمييز الاجتماعى، وعيا منها بأنَ النساء لا يتمتعْن بوجودٍ اجتماعى مُستقل. ومردُ ذلك إلى تركيزها على المُقاربة السوسيولسانية. بيد أنَ اللغة قد أَمست تُشكِل «إلى حدٍ كبير، مرآة ثقافية، وهو الأمر الذى يُبرِر التمثلات الرمزية (من خلال بنيتها أو من خلال لعبة الإيحاءات أو الاستعارة داخلها)، وهى أيضا صدى للمُسبقات والمسكوكات، وهى فى الوقت ذاته، ما يُغذى هذه الأحكام مُجتمعة».
•••
ثمة تمايُزٌ لسانى على مستوى الجنس، فوجود اختلاف بين كلام الرَجل وكلام المرأة أمر أكَدته دراساتٌ أنثروبولوجية عديدة، حيث أشار عالِم الاجتماع الأمريكى بول فورفاى فى مقالٍ صغيرٍ سنة 1944، إلى العلاقة القائمة بين اللُغة والجنس فى مُختلف المُجتمعات البدائية. وكذا استنتاجه أنَ لغة الرجال يُمكن أن تكون أداة للهَيمنة على النساء، وأنَ مُستعمِلى اللغة «المعيارية» أو الصيغة المُهيْمِنة يُمارِسون سلطتهم على مُستعمِلى العامية أو الصيغ التى يُنظر إليها باعتبارها «أقل قيمة من المعيارية». وقد اعتُبر هذا التصوُر فى حينه فتحا جديدا. ومع ذلك، فإن فورفاى يُقصى كليا من دراسته اللغاتِ «المألوفة» (أى لغات العالَم الغربى). وبما أنَ الأنثروبولوجيا هى أول مَن أَثار هذه القضية، فقد اعتُبر التمايُز الجنسى فى اللغة لفترةٍ طويلة سمة عارِضة ستندثر باندثار المُجتمعات البدائية أو تَغَرْبُنِهَا (والأمر سيان)، حينها سيتخلى الناس عن الخرافات والطابوهات والطقوس المعقدة، وسيفقدون فى الغالب لغاتهم لمصلحة لهجاتٍ أو لمصلحة لغاتِ المُستعمِر. ويقوم التمييز اللسانى فى هذه المُجتمعات البدائية أو العتيقة أساسا على طابو الزواج الخارجى.
وقد أكبَت الدراساتُ السوسيولسانية فى ما بعد على تطوير هذا الصرْحِ المعرفى الذى دشَنه المَسرى الأنثروبولوجى إذ «سيرى النور، مع ظهور اللسانيات الاجتماعية، توجُه جديد حاول من جهة أن يكون حاملا لرؤية شاملة لهذه القضية، وذلك من خلال استيعاب المعطيات التى قدَمها الأنثروبولوجيون والمُهتمون بالعاميات حول المُجتمعات القديمة ضمن ملاحظاتٍ مُعاصِرة خاصة بالمُجتمعات «المُتطوِرة»، وبَلْوَرَ من جهةٍ ثانية، انطلاقا من دراساتٍ ثقافية، نقدا اجتماعيا، وذلك بربْطِ الاستعمال اللُغوى بالوضع الاجتماعى للرجل والمرأة وقد تطوَرت فى الولايات المتحدة الأمريكية منذ عقْدٍ من الزمن مدرسةٌ فى اللسانيات الاجتماعية النسوية أَصبح لها امتدادُها اليوم فى فرنسا».
وقد أَسهمَتِ الحركاتُ النسويةُ بشكلٍ فعال فى انبجاسِ هذا الصرح المَعرفى الجديد، انطلاقا من تركيزها على العوامل الاجتماعية والإيديولوجية فى تشييد الشرط النسوى، وازْوِرارها ازْوِرارا عن عامل الجنس، «أى تبنى وجهة نظر اجتماعية، عوض وجهة نظرٍ نفسية، مما يعنى رفْضَ التفسيرات السيكولوجية السائدة التى تُركِز على «الطبيعة الأنثوية»، الأنثوى الخالد، وهذا معناه اتخاذ موقف ضمن السِجال: الطبيعة/الثقافة».
•••
تشدِدُ المُقارَبةُ السوسيولسانية على وجودِ اختلافاتٍ واضحة بين الخطاب الذكورى والخطاب الأنثوى، وهى اختلافات ذات أصلٍ ثقافى صرف، حيث «حاولَتْ أبحاثٌ كثيرة أُنجزت فى الولايات المتحدة الأمريكية تحديدَ الاختلافاتِ الموجودة فى السجالات المعجمية (المُرتبطة بالسمات الثقافية من قبيل الأدوار الاجتماعية، تقسيم العمل، طابوهات اللغة الخضراء أو البديئة، أو المُرتبِطة بسماتٍ «طبيعية» يتمتع بعضُها بتأويلٍ نفسانى)، وتحديد اختلافاتٍ من طبيعةٍ تركيبية أسلوبية (مَيل إلى الصيغ الاستفهامية أو الاستفهامية الإنكارية، اختيار كلمات لغوية فى الخطاب، استعمال صيغ الحدث المفعوليَة (وتحديد اختلافات أخرى من طبيعة صوتية. وهناك دراسات انصبَت على «الإنجاز اللفظى»، ما يعود إلى الثرثرة والمُحادَثة وسرعة الصبيب والقدرة على التحدُث أمام الجمهور، والاستعداد للازدواجية اللغوية، إلخ، وإلى غيرها من أشكال السلوك غير اللَفظى التى يقتضيها التواصُل).
على ألا يُفهمنَ مما سبق أن لا اختلافات ذات مصدر طبيعى بيولوجى مثل: الصوت، الرنة، والنبر، والصبيب... إلخ. فلغة النساء غالبا ما تكون مؤدَبة مهذَبة لطيفة، بينما تكون لغة الرجال ميالة إلى الشدة والقوة والقسوة. غير أن العوامل الثقافية تدعِم الاختلافات الطبيعية تلك، ويتم ذلك عن طريق «الاكتساب الاجتماعى للأدوار (وهذا يصدق على سَنَن أخرى كالهيئة والإيماءات وتعابير الوجه... إلخ). إنَ التمايُز الجنسى فى المقام الأول، واقعة من طبيعة اجتماعية ثقافية تنعكس على اللغة بصفتها نَسَقا سميائيا من بين أنساقٍ أخرى».
يتأسسُ كلٌ من الخطاب الذكورى والخطاب الأنثوى على مجموعة من السَنَن الثقافية يؤدى خرقُها إلى خطرِ العقاب الاجتماعى المادى والرَمزى، «فبمجرد ما نقبل بوجود سنن نسوى وآخر ذكورى لا يشبهه، فإن مشكلة الخرق ستُطرح. إنَ أشكال الخرق غير مقبولة فى العموم (امرأة «مُسترجِلة»، ورجل «أنيث» أنظر أيضا مُعجم المثلية). وهنا أيضا تندرج اللغة ضمن مجموعة من السنن الاجتماعية. وسيكون ذلك الخرق أكثر خطورة إنْ هو صدر عن الرجال، ذلك أنَ بإمكان النساء اليوم مُمارَسة الكلام كما يُمارسه الرجال».
من نافل القول إنَ اللغة المُهيمِنة على المؤسَسات الاجتماعية والسياسية هى لغة الرجال، إذ غالبا ما يتم إزاحة لغة النساء وتحقيرها. ومن ثم فإنَ مَوقع المرأة فى اللغة وفى أشكال الهَيْمنة ما هو سوى انعكاسٌ لمَكانتها داخل المُجتمع، وهو الأمر الذى تكشف عنه دراسة النَوع، «النحوى» أو «الطبيعى»، وقيمته الرمزية، وطبيعة اشتغاله (استيعاب المذكَر للمؤنث)، والتفاوُتات (المورفولوجية: أسماء الفاعل، بأبعادها التقريرية والإيحائية) ولغة الاحتقار (الصفات الحاطَة من شأن النساء، التى تُخيِر المرأة بين أن تكون قديسة أو عاهرة، إنه السوقى الجنسانى ذاته) والهوية الاجتماعية للنساء (تحديد المرأة فى علاقتها بجوزها وأبيها)». وتعكس تعريفات القواميس فى الأخير، التى هى صنائع إديولوجية فى الغالب، الذهنية المتخلِفة لمُستعملى اللُغة.
كان رهان «مارينا ياغيلو» على امتداد صفحات هذا الكِتاب الشيق عقْدَ مُقارناتٍ بين نضال النساء وباقى النضالات الاجتماعية والسياسية. على أنَ حركات التحرُر تتقاسم الخصائص اللسانية ذاتها، وقد خلصت من خلال المقارنات تلك إلى ما يلى: أولا، إنَ استقلالية السجالات تجعل الحوار صعبا، إن لم يكُن مستحيلا. ثانيا، إنَ طريقة الكلام تُصنِف الأفرادَ وتُحافِظ على التمييز. ثالثا، إنَ السلطة تفرز سوءَ فَهْمِ الآخر، الإنسان الأبيض والبرجوازى والراشد، الذى يعرف ما يريد، السلطة، والمال والاحتفاظ بهما. أما ما يريده الدُونى فهو شىء غامض. ولكن ماذا يريد هذا الطفل؟ ولكن ماذا يريد البروطونيون، والكورسيكيون، والسود... إلخ؟ بل ماذا تريد النساء؟ ولكن عمَ تبحث النساء؟ كما يقول فرويد. وأخيرا، يتطلَب النضال من أجل المُساواة والحرية والهوية الثقافية من النساء والمجموعات المضطَهدة والأقليات والمُهمَشين أن يتجاوزوا النضال من أجل الحق فى التعبير والكلام، من أجل الحق فى تحديد هوية، فى الحق فى امتلاك اسم، أى النضال ضد لغة الاحتقار.

النص الأصلي

التعليقات