فى جدليّة المدينة والثقافة - العالم يفكر - بوابة الشروق
السبت 14 ديسمبر 2024 7:23 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

فى جدليّة المدينة والثقافة

نشر فى : الأربعاء 27 أبريل 2022 - 8:55 م | آخر تحديث : الأربعاء 27 أبريل 2022 - 8:55 م

نشرت مؤسسة الفكر العربى مقالا بتاريخ 27 أبريل للكاتبة رفيف رضا صيداوى تناولت فيه كيف أن اجتماع الأفراد وتضامنهم وتعاونهم هو الذى يخلد تاريخ المدن؛ التاريخ الذى يعكس أفكار الناس وتجاربهم فى زمن ما، وكيف أن هذا التضامن والتعاون هو الذى يؤسس التنمية المستدامة ومنطقها.. نعرض منه ما يلى.

المكان عموما لا يقوم إلّا بناسه، فهُم الذين يبثّون فيه عبقهم وعطرهم وأحاسيسهم وخلجات قلوبهم وقصصهم وذكرياتهم وكلّ ما يتّصل بأبعادهم الإنسانيّة والوجوديّة؛ والمدينة فى هذا الإطار ليست مجرّد مكان لأنّها وقبل أى شىء آخر شاهدة على روح الإنسان فيها فى الماضى البعيد كما فى نظيره القريب، بقدر ما هى شاهدة أيضا على حاضره ورؤاه وأحلامه نحو المُستقبل. وإذا كانت المدينة هى الإطار الذى تتجسّد فيه ثقافة شعب أو أمّة، فإنّ معنى المدينة لا يستوى من دون العناصر الثقافيّة التى أسبغت عليها هذا المعنى أو ذاك.

كلّ مُدن العالَم، سواء التاريخيّة والتراثيّة منها أم الحديثة، اكتسبت معناها من المُنجزات الثقافيّة وغير الثقافيّة لأبنائها: فحتّى حين نقتفى أثر أكثر المُدن قدما فى التاريخ مثل أوروك وأور السومريّتَيْن (بلاد سومر ــ فى العراق اليوم) خلال الألف الرّابع قبل الميلاد، أو مثل أسوان وإسنا وسمنود وأسيوط المصريّة القديمة التى لا تزال تحتفظ بأسمائها الفرعونيّة حتّى اليوم، ومُدن طيبة ومنفس وهليوبوليس (3000 – 2000 قبل الميلاد).. وغيرها الكثير من المراكز الحضاريّة العظمى فى العالَم أجمع، نكون فى صدد التقصّى، من خلال الآثار الملموسة كالقطع الأثريّة والمبانى وغيرها، عن أحوال ناسها سواء فى تعاملهم مع بيئاتهم وجيرانهم أم فى كيفيّة اجتراحهم سُبل عيشهم وتجاوزهم مآزقهم الإنسانيّة. فهذه المُدن اكتسبت معناها من كلّ المخلّفات الرمزيّة للبشر الذين عاشوا فيها، ولاسيّما الفنون التى جسّدتها رسوم الكهوف الجوفيّة والأساطير والقصائد الملحميّة وغيرها من العناصر الثقافيّة والفنيّة العاكسة لكيفيّة تمثّلهم للحياة والكون. فالأسطورة مثلا، عدا كونها وسيلة للبناء الاجتماعى فى تلك الحضارة أو تلك، تُقدِّم، على حدّ تعبير كارين أرمسترونج فى كتابها تاريخ الأسطورة، معلومات لبيئتها تكون بمثابة «دليلٍ للسلوك»، وهى بالتالى تُرشدنا حتّى اليوم إلى الكيفيّة التى تعامَل فيها البشر مع أزماتهم الباطنيّة والكيفيّة التى تصوّروا من خلالها عالَمهم النموذجى والمثالى. فقد استعمل إنسان الهوموسابيان Homo Sapiens بحسب كارين أرمسترونج «اللّوجوس ليطوِّر أسلحة جديدة، واستعمل الأسطورة، بطقوسها المُرافقة لها، ليواسى ويعزّى نفسه بحقائق الحياة المأسويّة التى تُهدِّد بسحقه وحرمانه من التصرُّف بفعاليّة»؛ ثمّ ألَم تحكى الأساطير الإغريقيّة القديمة كيف سرق بروميثيوس النار من الآلهة من أجل البشريّة، وكيف أُرغم إينياس فى أسطورة طروادة على ترْكِ حياته القديمة ورؤية بلاده وهى تشتعل بعدما دمّرها اليونانيّون قبل أن ينحدر إلى العالَم الأرضى ويجد مدينة روما الجديدة، ليؤسِّس طروادة الجديدة؟
المدينة كفاعل ثقافى

المدينة هى النواة الأساسيّة للتاريخ والحضارة والثقافة، لكونها تنهض بوظائف متعدّدة: حربيّة وسياسيّة وثقافيّة ودينيّة.. إلخ؛ وكتب جمال شحيد فى كتاب الرواية والمدينة أنه «فى العواصم تستقرّ الأنظمة السياسيّة بمؤسّساتها ووزاراتها وجامعاتها ومتاحفها ومنشآتها الثقافيّة والفكريّة. وفيها تستقرّ السلطات المدنيّة والدينيّة. ولكى يبتّ الحكّام والفاتحون مآثرهم أطلقوا أسماءهم بخاصّة على المُدن والحواضر كالإسكندريّة والناصريّة والإسماعيليّة وبورسعيد.. كما أطلقوها طبعا على الشوارع والمصانع والمنشآت والمشاريع. ولكى يخلّدوا أسماءهم فى «التاريخى نشروا صورهم وتماثيلهم فى كلّ مكان، فحوّلوا بلدانهم إلى طواطم تلهج باسمهم».
لكنّ نصيب المُدن المختلفة يختلف «من تعدّد الوظائف، فبعضها يجمع وظيفتَيْن أو أكثر، وبعضها يضمّ كلّ الوظائف أو يكاد»، كما أنّ «الوظائف يدعو بعضها البعض، فتدعم بعضها، وتتكامل، هكذا تتقاطر الوظائف أوتوماتيكيّا، وفى ميكانيكيّة تشبه كرة الثلج» (جمال حمدان ــ جغرافية المُدن).

بهذا المعنى خُلِّدت مُدن عربيّة كثيرة فى الذاكرة الجمعيّة العربيّة والإسلاميّة. فكانت بغداد عاصمة عالَميّة عَرفت حراكا ثقافيّا متميّزا منذ العصر العبّاسى، يشهد على ذلك تأسيس أوّل دار كُتب عامّة فيها هو «بيت الحكمة» أيّام الخليفة هارون الرشيد؛ وكانت القيروان حاضنة الثقافة العربيّة الإسلاميّة واشتهرت بدورها بالمكتبات العامّة والتى كان من أشهرها «بيت الحكمة» الذى أنشأه إبراهيم الثانى الأغلبى 261 ــ 289 هـ / 875 ــ 902 م. مُحاكاةً لبيت الحكمة الذى أسسّه هارون الرشيد فى بغداد، فضلا عن كونها نقطة ارتكاز لعلوم الفقه واللّغة والأدب والشعر والتاريخ.. وعلى هذا المنوال احتلّت مدنٌ عربيّة أخرى مثل القاهرة وبيروت وغيرها مكانتها فى الذاكرة الجمعيّة كعواصم حضاريّة ثقافيّة راحت تتوسّع فى زمنٍ مدينى ميَّزَ نسيجها الاجتماعى ودَمَغَهُ بطابعه، بقدر ما ميَّز تاريخيّا هذه المدينة أو تلك على المستوى الثقافى، بالمعنى الواسع للكلمة، أى بما يشمل فنونها وعمارتها ومختلف منجزاتها الحضاريّة، بحيث إذا ما تجوّلنا فى شوارعها وأسواقها ومرافئها، وزرنا معابدها وقصورها وحدائقها نكون كمن يجول بين ناس ذلك الزمن أو ذاك، نقرأ أفكارهم وتاريخهم ونَستلهم تجاربهم، لعلّنا نستقى منها ما يفيد حاضرنا ومستقبلنا. فالمدينة، أى مدينة، بحسب الروائى إيتالو كالفينو فى كِتابه «مُدن لا مرئيّة» «لا تُفارق الذهن، هى مثل درع أو مثل قرص العسل، يقدر أى منّا أن يضع فى خلاياه الأشياء التى يريد تذكّرها: أسماء الرجال المشهورين، الفضائل، الأرقام، أصناف الخضراوات والمعادن، تواريخ المعارك.. «تمتلئ ذاكرتنا الجمعيّة بهذا الماضى الحاضر أو الحاضر الماضى لأنّ المُدن تحفر علاماتها التى لا نتوقّف عن تعقّب آثارها وملء فراغاتها، ولاسيّما أنّ المدينة ــ بحسب كالفينو، لا تكشف عن ماضيها، إنّما هى تحمله كخطوط الكفّ مكتوبا فى زوايا الشوارع، فى أسلاك النوافذ، درابزينات السلالم والهوائيّات ذات القضبان المُتشعّبة، وصوارى الأعلام..».

لذا ترانا نحتفى اليوم بمُبادرة لليونسكو فى تطبيق فكرة عاصمة الثقافة العربيّة التى انطلقت سنة 1996 على غرار عاصمة الثقافة الأوروبيّة، التى تتزامن مع تعقيدات مُجتمع المدينة وصراعاته المُختلفة والمتنوّعة، وذلك استنادا إلى أهميّة الثقافة فى حياة المُجتمعات وفى التنمية الشاملة؛ إذ إنّ تنشيط المُبادرات الخلّاقة وتنمية الرصيد الثقافى والمخزون الفكرى والحضارى لمُدننا، عبر إبراز قيمتها الحضاريّة من شأنه دعْم الإبداع الفكرى والثقافى تعميقا للحوار الثقافى والانفتاح على ثقافات الشعوب وحضاراتها وتعزيز القيَم، والتفاهم والتآخى، والتسامح واحترام الخصوصيّة الثقافيّة والتراث. لكنّ السؤال الإشكالى الذى يطرحه كثيرون، وهو سؤال صائب من دون شكّ، هو حول ما إذا كانت المدينة نِتاجَ الذاكرة وحدها، لكونه سؤالا تتفرّع منه أسئلة إشكاليّة أخرى مثل السؤال عمّا إذا كانت نِتاج كلّ ما بقىَ من عَظَمَةِ الحضارات التى مرَّت فى المُدن ومَكانتها؟ وما إذا كانت تستمرّ فى الحياة بالاستناد إلى مجدها الغابر؟ وغيرها الكثير من الأسئلة التى تفترض، كما شرح ذلك الباحث والفنّان التشكيلى طلال معلّا، أن تضعَ هذه المُدنُ استراتيجيّاتٍ وسياساتٍ تستطيع من خلالها استيعاب العبور الزمنى بين الماضى والحاضر والمُستقبل، وأن تَضَعَ الثقافةُ فى هذه المُدن أُسُسا لمُواجَهةِ مُختلف التحدّيات التى تعيشها، ومنها الجوانب المُتعلّقة بالتجديد العمرانى، وما يجب تحقيقه فى قلب المُدن الحيويّة، والتأثير على البنى السكّانيّة والجماعات، وسُبل التمويل الثقافى والرعاية والاحتضان والدَّعْم... إلخ؛ أى باختصار كلّ ما يُساعد على تنمية الإدارة الثقافيّة للمدينة، وتعزيز جاذبيّتها، ودمْج الأفراد فى المُجتمع المحلّى تعزيزا للتماسُك المُجتمعى وتحسين صورة المدينة فى عيون سكّانها.
لقد اختيرت القيروان فى العام 2009 عاصمةً للثقافة الإسلاميّة، وتحت عنوان «القيروان الخالدة»، ركّزت العروض الفنيّة والثقافيّة على استعادة أمجادها بوصفها أعرق المُدن الإسلاميّة، ومن أكثرها إثراءً للحضارة الإنسانيّة. لكنّنا فى الوقت عَينه حين نقرأ ما كَتبه أحد أبنائها اليوم ندرك أنّ المدينة تعرف الارتحالات وحدها، ولا تعرف الرجوع، على حدّ تعبير كالفينو. يكتب حسّونة المصباحى قائلا: «زائرُ القيروان الآن، حتّى ولو كان عاشِقا لها مثلى أنا، يشعر وهو يتجوّل فى شوارعها وأزقّتها وأسواقها، أنّ التاريخ مُعطَّلٌ فيها منذ غزوة بنى هلال، وأنّ الأساطير لم تعُد صالِحة لمُعالَجة الجراح النّازِفة، مثلما كان حالُها فى الماضى. كما أنّ تلك الأساطير لم تَعُد قادِرةً على إخفاء الصور المُرعِبة والموحِشة لواقعٍ مَريرٍ يوحى بأنّه قد يَظلّ جاثما على القيروان لأمدٍ طويل».
• • •
يقودنا ما سبق إلى القول أنّ تطوّر المُدن وخلودها فى التاريخ ينهض من اجتماع ناسها وتضامنهم وتعاونهم من أجل ديمومة عيشهم: «البناء واختطاط المنازل إنّما هو من مَنازع الحضارة التى يدعو إليها الترف والدّعة كما قدّمناه وذلك متأخّر عن البداوة ومنازعها وأيضا فالمُدن والأمصار ذات هياكل وأجرام عظيمة وبناء كبير وهى موضوعة للعموم لا للخصوص فتحتاج إلى اجتماع الأيدى وكثرة التعاون» (ابن خلدون).
وهذا التعاون المكرَّس لمصلحة الجماعة ولجعْل المدينة مدينة الصالح العامّ، هو الذى ينبغى أن يكون فى أساس التنمية المُستدامة ومنطقها؛ فهل إنّ مُدننا العربيّة بحسب ما سأل طلال معلّا تحتضن رؤيةً واضحةً نحو المُستقبل؟ وهل تُعزِّز أساسا الحاجةَ إلى الثقافة وتُشجِّع عليها؟ وهل إنّ مَطلب الثقافة لديها، أو لدى صنّاعِ القرار فيها، أو لدى مُثقّفيها ونُخبِها المُتعلِّمة وشرائحها الاجتماعيّة كافّة، هو مَطلَبٌ مُلِحٌّ حقّا؟
ربّما كان الجواب مرّة أخرى عند كالفينو فى أنّ المُدن «يُعتقد بأنّها من عمل العقل أو الصدفة. ولكنْ لا هذا ولا تلك كافيان لإقامة جدرانها، إنّ فرحتك لا تكمن فى عجائب المدينة السبع أو السبعين ولكنْ فى جوابها عن سؤالك»؛ أى سؤال الإنسان فى هذه المدينة برغباته ومخاوفه، بواقعه وأحلامه، بماضيه وحاضره ومُستقبله.. واختصارا بسؤاله ككائنٍ متعدّد الأبعاد فى مدينة متعدّدة الأبعاد أيضا.
النص الأصلى هنا

التعليقات