ألمانيا أمام اختبار جديد - جميل مطر - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 8:45 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ألمانيا أمام اختبار جديد

نشر فى : الأربعاء 27 سبتمبر 2017 - 9:55 م | آخر تحديث : الأربعاء 27 سبتمبر 2017 - 9:55 م
أكاد أتصور شماتة كل من فلاديمير بوتين ودونالد ترامب فى السيدة آنجيلا ميركيل بعد أن تأكدت نتائج الانتخابات البرلمانية الألمانية. أكاد فى الوقت نفسه أتصور الزيادة فى عزم السيدة ميركيل على تعويض خسارتها، بل وتعويض خسارة الوسط السياسى الألمانى كله، بالإصرار على الاستمرار فى الحكم وادخال التغييرات الضرورية على بعض سياساتها وكسر شوكة الشعبوية المتسللة إلى السياسة فى المانيا ووقف زحف اليمين المتطرف. ميركيل تدخل اختبارا جديدا لعله الأصعب فى مسيرتها السياسية الطويلة.

***

كانت الحملة الانتخابية التى توقفت نهاية الأسبوع الماضى الأشد مللا فى تاريخ الانتخابات البرلمانية الألمانية. فى الوقت ذاته، كانت الانتخابات الأكثر دلالة على بداية حقبة جديدة فى التطور السياسى فى واحدة من أهم الدول الأوروبية، بل الأهم على الإطلاق من نواحى عديدة. وكانت أيضا الحدث الذى أوجز بسرعة حقائق عن ألمانيا السياسية لم أتوقف أمامها لعدم التخصص فى الشئون الألمانية. أضرب مثالا. قليلة هى الدول التى تسمح قواعد العمل السياسى فيها لحزب معارض بأن يكون طرفا مشاركا فى الحكم مشاركة حقيقية ومسئولة. من هذه الدول القليلة وربما على رأسها المملكة المتحدة. أذكر كيف ألهب هذا النموذج فى الحكم خيالنا الشاب حين كنا طلاب علم ندرس لأول مرة تجارب الحكم الديموقراطى. لم يكن يخطر على بالنا، وكان البال رخوا فى ذلك الحين، أن تكون للمعارضة حكومة ظل تقرأ ملفات القضايا، وبعضها عالى السرية، فى وقت كنا فى مصر نفتقر إلى صحيفة أو إذاعة، ولا أقول حزبا، يحمل صفة المعارضة. وجدنا هذا النموذج فى بريطانيا وعشنا منذ ذلك الحين نتابع بالإعجاب وبعض الحسد عملية تداول السلطة فى ذلك البلد، حتى جاءت هذه الدورة من انتخابات ألمانيا لتكشف لى عن نموذج آخر قريب جدا من النموذج البريطانى. 

يفترض النموذج الألمانى كقرينه البريطانى أن حزبا، أو ائتلافا من أحزاب المعارضة الذى يحصل على ثانى أكبر عدد من المقاعد فى البرلمان يحق له، بل يتعين عليه أن يقبل بتحمل مسئوليته كطرف فى الحكم. يظهر هذا الالتزام من وجوب تولى أحد أعضاء هذا الحزب أو الائتلاف المعارض رئاسة لجنة الميزانية. بمعنى آخر، يحق للمعارضة من خلال هذا المنصب، التأثير فى قضايا حيوية مثل الدفاع والأمن والتسلح وتكاليف الاندماج الأوروبى وتطوير أنماط الانتاج فى الصناعة. أعترف أننى توقفت طويلا أمام القرار الذى اتخذه السيد شولتز، رئيس الحزب الاشتراكى الديموقراطى، برفض الاستمرار فى ائتلاف الحكم بقيادة السيدة ميركيل وحزب الديموقراطية المسيحية مفضلا تولى مسئولية المعارضة الأساسية فى البرلمان. تساءلت، وسألت خبيرة ألمانية مقيمة فى القاهرة، إن كان مثل هذا القرار يمكن أن يصدر بدون التشاور مع السيدة ميركيل المكلفة بتشكيل الحكومة الجديدة. أجابت بأن كلا من ميركيل وشولتز فى أمس الحاجة لإعادة تنظيم صفوف حزبيهما ربما أكثر من خشيتهما من وجود حزب متطرف فى مقاعد المعارضة، فضلا عن أن ميركيل فى ظروفها الراهنة لن تتحمل دفع ثمن تنازلات كان شولتز سيطالب بها لو دخل الحزبان فى شراكة جديدة. لا أخفى حقيقة أننى كنت متأثرا ببعض جوانب التجربة الأمريكية حيث الاعتقاد بأن «النظام السياسى» الأمريكى تتوافر له قيادات وهياكل وقواعد غير ملموسة بالضرورة تحميه من الخروقات والنتوءات المفاجئة والمهددة لاستقراره وعقيدته. تصورت لأطول من لحظة أن قرار عدم تشكيل حكومة ائتلافية لأول مرة منذ سنوات عنيدة تقف وراءه رغبة «قادة النظام السياسى الألمانى» منع وصول نواب إلى داخل البرلمان يمثلون حزبا جديدا من خارج النظام مشكوك فى نواياه ضد هذا النظام. اقتنعت، بسبب نقص حججى، بالرأى الآخر، رأى الخبيرة الألمانية. 

***

كانت فعلا انتخابات مملة ولكن تركت لنا دلالات مهمة عن حال السياسة فى المجتمعات الغربية وحال الديموقراطية المنحسرة وحال الصعود الملح من جانب القوى اليمينية فى أوروبا بخاصة. فسر البعض منا وصول ماكرون إلى الرئاسة فى فرنسا بأنه ضربة قوية لليمين الأوروبى الصاعد. أخطأ أصحاب هذا الرأى لأنه تجاهل حقيقة أن مارين لوبين حصدت أكثر من أحد عشر مليون صوت فى الجولة الثانية من انتخابات الرئاسة. ثم أننا لا يجوز أن نقلل من أهمية صلابة الرئيس ترامب وصموده. هو رمز صعود التيارات الشعبوية اليمينية والقومية. هو أيضا فى رأيهم رمز ناجح وعزيز عليهم. لاحظنا مثلا الالتفاف القوى من جانب قواعده الشعبية ومن عديد القوى اليمينية والشعبوية فى العالم الخارجى وبخاصة الحاكمة منها حول موقفه من لاعبى كرة القدم الأمريكيين الذين رفضوا أوامره لهم بالوقوف احتراما للنشيد الوطنى، وانضم إليهم احتجاجا على الرئيس قطاع مهم من رجال الأعمال. نعم، أتصوره شامتا فى السيدة ميركيل لوصول ثمان وثمانين مرشحا عن حزب البدائل اليمينى المتطرف إلى البرلمان الألمانى. 

فى واقع الأمر لا يوجد ما يؤذن لميركيل أو ماكرون أو غيرهما من قادة الوسط السياسى الأوروبى المتزايد الانكماش بأن الوضع قد يتغير قريبا لصالح الوسط. العكس هو الاحتمال الأقوى بالنظر إلى التعقيدات الاجتماعية التى مازالت تثيرها موجات العولمة، وبخاصة نقص الوظائف، بالإضافة إلى آثار الهجرات الإسلامية إلى أوروبا والغرب عموما، كلها وغيرها عوامل تشير إلى احتمال أقوى بأن تزداد تعقيدات الحالة التى تعيشها أحزاب وتيارات الوسط، هذا الوسط الذى لم يبلغ انكماشه فى أى وقت وفى ألمانيا على وجه الخصوص درجة انكماشه الراهنة. 

من هذه العوامل على سبيل المثال؛ الانحسار المتواصل لقوى اليسار فى العالم، استنادا إلى اعتقاد قديم بأن اليسار كان دائما المصدر الأساسى والمتجدد الذى يزود الوسط السياسى فى معظم الدول بالأفكار والخبرة التنظيمية، وأنه مع انحساره فقد الوسط هذا المصدر فزاد اعتماده على قوى اليمين أو تسللت إليه وفى حالات كثيرة ومعروفة هيمنت وتحكمت وعززت روابطها بتيارات اليمين المتطرف أو سمحت لها باحتلال بعض قواعدها الجماهيرية. 

***

لن تكون مهمة السيدة ميركيل سهلة فالظروف والعوامل المعيقة لها، كما أشرت، كثيرة وبعضها هيكلى يمس صلب البناء السياسى والأيديولوجى للنظام الألمانى. هناك اعتبارا ت أخرى تضيف إلى متاعب أى تشكيل حكومى تختاره ميركيل لولايتها القادمة. هناك أولا القضية المؤجلة والمتعلقة بتحديث قواعد الإنتاج الصناعى الألمانى والتحول إلى «الترقيم» الكلى إن صح التعبير، وهو المجال الذى سبقتها إليه الصين وتحاول اللحاق بها أو مسايرتها الولايات المتحدة. تكلفة هذا التحول باهظة تمويليا واجتماعيا وتأهيليا وسياسيا. أتصور أننا سوف نرى على الفور بعض ملامح هذه التكلفة فى المفاوضات التى تُزمع ميركيل مباشرتها مع حزب الأحرار الذى يمثل جمعيات رجال الأعمال ليدخل شريكا معها فى ائتلاف الحكم ومع حزب الخضر. من ناحية ثانية فقد لفت نظرى أحد الاقتصاديين المراقبين للحالة الألمانية إلى احتمال أن يشهد عهد ميركيل القادم إنتاج آخر سيارة ألمانية وخروجها إلى السوق العالمية على ضوء احتمال استمرار الأزمات التى ضربت هذه الصناعة خلال العقد الأخير. وهو احتمال غير مستبعد أن يتحقق على ضوء التجربة. من ناحية ثالثة، سوف يتعين على حكومة ميركيل مواجهة الحملة المعادية للهجرة بشبكة سياسات شجاعة وحاسمة ومكلفة لتسريع عملية دمج مليون مهاجر فى المجتمع الألمانى. أتصور أن خصومها فى حزب البدائل لن يتركوها تحقق هذا الهدف فى هدوء وبعيدا عن الإثارة التى سوف يستخدمها نواب الحزب فى البرلمان الذى جاءوا إليه وفى نيتهم كما أعلنوا «اصطياد ميركيل» عند كل خطوة تخطوها فى تعاملها مع قضية الهجرة. من ناحية رابعة، يتوقع السياسيون الألمان على مختلف مشاربهم أن يتكثف الضغط الخارجى على الحكومة القادمة لتزيد مساهمتها فى تنفيذ خطط الأمن الدولى والاقليمى. هذه الزيادة ستضيف إلى أعباء ألمانيا الاقتصادية، فضلا عن أنها سوف تفتح الباب أمام المعارضة غير المسئولة لإثارة زوابع سياسية فى البرلمان وخارجه. من ناحية خامسة، لا يخفى على أحد أن البنية التحتية الألمانية تعرضت فى السنوات الأخيرة إلى إهمال بسبب ارتباطات ألمانيا والتزاماتها تجاه الدول الأقل حظا فى المجموعة الأوروبية، وأن جوانب معينة فى هذه البنية تحتاج تدخلا عاجلا قبل أن يستفحل العجز.

سمعت فى مصر وفى أكثر من دولة عربية ما يشبه الشماتة فى ألمانيا والدول التى ما زالت تصر على إجراء انتخابات «ديموقراطية وحرة وشفافة». يقولون هكذا وبفضل هذا النوع من الانتخابات وصل أكثر من ثمانين نائبا يمينيا متطرفا إلى البرلمان الألمانى. ها هى السيدة ميركيل تدفع ثمن حماستها للديموقراطية والانتخابات الحرة وحقوق الإنسان. 
إنه بالفعل لتطور مثير فى السياسة الداخلية والخارجية على حد سواء، أن نرى حلفا عالميا قويا معاديا للديموقراطية وحقوق الإنسان يضم فى صفوفه أنصارا للاستبداد بكل ألوانه وأهدافه، الدينى والمدنى، الأبيض والأسود، اليمينى واليسارى، الهندوسى والإسلامى، البوليفارى والكولونيالى، الشيوعى الأصل والنازى، البوتينى المزاج و الترامبى الهوى.
جميل مطر كاتب ومحلل سياسي