أقرأ مشروع قانون الإجراءات الجنائية الجديد، الذى انتهت لجنة الشئون الدستورية والتشريعية بمجلس النواب من مناقشته يوم 11 سبتمبر وسوف تقدمه للمجلس ككل فى دور الانعقاد السنوى القادم فى أول أكتوبر ليُطرح على باقى النواب، وأقارنه بقانون الإجراءات الجنائية الحالى رقم 150 لسنة 1950. والشىء المشجع، بعد كل السجال والجدل والاعتراض على بعض المواد الجوهرية فى القانون من قبل جهات وأفراد مهتمين بالقانون وكانوا منتظرين تعديلاته وخاصة نقابتى المحامين والصحفيين ونادى القضاة والمحامين الحقوقيين وغيرهم، ورد اللجنة عليهم، هو ما أكده المجلس فى بيانه الأخير يوم 13 سبتمبر «على استيعاب كل الآراء إدراكًا بأن المسائل التشريعية قد تحمل وجوهًا متعددةً. وأن المجلس ما زال يفتح أبوابه لمناقشة أى تعديلات قد يراها البعض ضرورية».
سوف أعرض فى ثلاثة مقالات تعليقات على مواد الحبس الاحتياطى الواردة بمشروع القانون خاصة بمدد الحبس، ومبرراته، وطرق تجديده، وبدائله، والتعويض المعنوى والمادى للمتهم فى حال البراءة أو صدور قرار من النيابة بألا وجه لإقامة الدعوى الجنائية بعد حبسه احتياطيًا. وذلك مع التنويه إلى أننى استندت إلى مسودة مشروع القانون الأولى المنشورة والتعديلات التى طرأت عليها بعد المناقشات خاصة مع نقابة المحامين وغيرها من الجهات، والتى نُشرت فى الصحف؛ لأن التقرير النهائى للمشروع لم يُصدر بعد.
مدد الحبس الاحتياطى
قبل التطرق للمدد، ووفقا لقانون الإجراءات الحالى ومشروع القانون، لا يجوز الحبس الاحتياطى إلا فى الجناية (التى عقوبتها السجن من ثلاث سنوات للمؤبد أو الإعدام) وفى الجنحة المُعاقب عليها بالحبس مدة لا تقل عن سنة، مع العلم أن الجنحة بصفة عامة هى التى عقوبتها من 24 ساعة لثلاث سنوات و/أو غرامة أكثر من 100ج. مما يعنى أن أمر الحبس الاحتياطى للجنح أقل من سنة غير قانونى. ولا يجوز الحبس الاحتياطى فى المخالفات مثل مخالفات المرور المعاقب عليها بالغرامة فقط والتى لا تزيد عن 100ج.
قلل مشروع القانون مدد الحبس الاحتياطى فى سائر مراحل الدعوى الجنائية كالآتى:
الجنح: 4 أشهر بدلاً من 6 أشهر فى القانون الحالى.
فى الجنايات: 12 شهرا بدلاً من 18 شهرا، و18 شهرا بدلاً من سنتين للجرائم التى عقوبتها المؤبد أو الإعدام.
وعُدّلت المادة التى تعطى الحق لمحكمة النقض بتجديد الحبس للفئة الأخيرة بدون التقيد بالسنتين (والتى كان أضافها الرئيس المؤقت عدلى منصور بقرار بقانون رقم 83 لسنة 2013)، فوضع مشروع القانون سقفًا لمدد التجديد بسنتين.
(مواد مدد الحبس الاحتياطى: مادة 143 من القانون الحالى ومادة 123 من مشروع القانون).
تقليص مدد الحبس شىء إيجابى لكن الأهم من هذا كثيرا هو وجود نص تشريعى يمنع تجاوز المدد المنصوص عليها فى الحبس الاحتياطى ويُرتب البطلان على هذا التجاوز والإفراج الفورى للمتهم ويُعاقب المخالفين الذين تسببوا فيه من أعضاء النيابة العامة. فى تقديرى كان يجب أن ينص المشروع على هذه الضمانة فى فقرة منفصلة لمادة تقليل المدد.
والحقيقة لا أجد مبررًا للتفرقة التى أوجدها المشروع بين عضو النيابة العامة الذى يحقق فى الدعوى، وقاضى التحقيق المنتدب من المحكمة الابتدائية بُناء على طلب النيابة العامة ليحقق فى جناية أو جنحة بدلاً من عضو النيابة، ففى حين لا يوجد جزاء لمخالفة مدة التحقيق الابتدائى من عضو النيابة، وضع مشروع القانون جزاء لنفس المخالفة على قاضى التحقيق متمثلة فى حق المحكمة فى استبداله بقاضٍ ثانٍ يستكمل التحقيقات. (مادة 174 من مشروع القانون).
القانون الأصلح للمتهم
وأتصور أنه فى حالة صدور القانون الجديد ونفاذه، المفترض أن يستفاد بأثر رجعى من أحكام تخفيض المدد كل المحبوسين احتياطيًا الذين تخطوها عملاً بمبدأ مهم فى القانون الجنائى هو «القانون الجنائى الأصلح للمتهم» الذى بموجبه لو صدر قانون جديد يخفف عقوبة أو يلغى جريمة يستفاد منه بأثر رجعى المتهم الذى ارتكب الأفعال المُجَرّمة قبل صدور القانون الجديد. وهذا بالنسبة للمتهم الذى صدر ضده بالفعل حكم محكمة غير نهائى، أى قابل للاستئناف والنقض.
فمثلاً لو كان هناك شخص متهم بجناية عقوبتها الإعدام أو السجن 15 سنة أو حتى مخالفة بسيطة، وحُكم عليه بحكم ليس نهائيا، وصدر قانون يُخفف من العقوبة أو يلغيها تماما، لأن الدولة قررت أن هذا الفعل لم يعد ضارًا بالمجتمع أو ليس هناك داعٍ لتوقيع عقوبة شديدة، يكون من حق المتهم الاستفادة من القانون الجديد فيمكنه الحصول على براءة أو تخفيف الحكم. فإذا كان هذا حال المتهم المحكوم عليه فمن باب أولى يستفاد من هذا المبدأ المتهم المحبوس احتياطيا.
مبررات الحبس الاحتياطى
فى المادة 112 من مشروع القانون، الحالات التى تستدعى الحبس الاحتياطى منقولة نصا من القانون الحالى فى مادته 134 وهى أربع حالات على سبيل الحصر:
1. إذا كانت الجريمة فى حالة تلبس ويجب تنفيذ الحكم فيها فور صدوره.
2. الخشية من هروب المتهم.
3. خشية الإضرار بمصلحة التحقيق سواء بالتأثير على المجنى عليه أو الشهود، أو العبث فى الأدلة أو القرائن المادية، أو بإجراء اتفاقات مع باقى الجناة لتغيير الحقيقة أو طمس معالمها.
4. توقى الإخلال الجسيم بالأمن والنظام العام الذى قد يترتب على جسامة الجريمة.
وكانت تستوقفنى الفقرتان الثانية والرابعة من المادة أثناء دراسة القانون فى كلية حقوق القاهرة، والتى انتهيت منها السنة الماضية، وهذا لسببين:
أولاً، بالنسبة للخشية من هروب المتهم كمبرر للحبس الاحتياطى: ما هو سند المحقق فى الخوف من هرب المتهم؟ على أى أساس يقرر أن هذا المتهم بالذات يُخشى من هربه ومتهم ثانٍ يدفع كفالة ويُخلى سبيله؟ هل على أساس أن له سجلا سابقا فى الهروب؟ ولماذا لم يُنص على هذا الاحتراز فى المادة؟
ثانيا، عبارة «الإخلال الجسيم بالأمن والنظام العام» فى الفقرة الرابعة مبهمة ومطاطة وتحديدها متروك تماما لحس وتقدير سلطة التحقيق. وفسر أساتذة مادة قانون الإجراءات د. عمر سالم ود. رحاب عمر سالم فى كتابهما المقرر على طلبة كلية حقوق القاهرة بعنوان «الوجيز فى شرح قانون الإجراءات الجنائية»، العبارة ب: «هناك جرائم تثير الرأى العام لعل أهمها جرائم الدم والاعتداء على العرض، ولا شك أن ترك المتهم حرا طليقا فى مثل هذه الحالات قد يقود إلى كثير من الاضطرابات خاصة بين عائلات الجناة والمجنى عليهم وربما يتم الفتك بالمتهم، وهذا يعد كافيا للأمر بالحبس الاحتياطى».
وكنت أختلف مع هذا المبرر تمامًا لأنه بدلاً من البحث عن طرق لحماية المتهم المفترض فيه البراءة لحين إثبات العكس، نوجد مبررات لحبسه.
وأتصور أن هذا التوسع فى مبررات الحبس الاحتياطى فى الفقرة الثانية والرابعة مناقض لنص المادة 15 من الدستور التى تنص على: «الحرية الشخصية حق طبيعى، وهى مصونة لا تُمس، وفيما عدا حالة التلبس، لا يجوز القبض على أحد، أو تفتيشه، أو حبسه، أو تقييد حريته بأى قيد إلا بأمر قضائى مسبب يستلزمه التحقيق».