الآميش هو الحل - خالد الخميسي - بوابة الشروق
الإثنين 29 أبريل 2024 6:56 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الآميش هو الحل

نشر فى : الأحد 28 مارس 2010 - 9:25 ص | آخر تحديث : الأحد 28 مارس 2010 - 9:25 ص

 أقمت فى اسكتلندا لمدة ثلاثة أسابيع فى قلعة تاريخية يعود تاريخ إنشائها إلى القرن السادس عشر الميلادى فى منحة تفرغ للكتابة.

وكان معى أربعة كتاب من ضمنهم شاعر أمريكى من الآميش. والآميش لمن لا يعرفونهم هم طائفة دينية مسيحية تأسست فى القرن السادس عشر فى أوروبا، ظهرت أول ما ظهرت فى سويسرا الألمانية وألمانيا وانتقل بعضهم إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ويبلغ تعدادهم اليوم فى أمريكا قرابة ربع المليون نسمة. يعيشون فى مجتمعات مغلقة خاصة بهم وهناك فى الولايات المتحدة قرابة الثلاثة آلاف جماعة من الآميش.

كان لقائى الأول مع الكتاب أثناء اجتماع العشاء فى الليلة الأولى. كنت أول من وصل إلى غرفة الانتظار الملحقة بغرفة الطعام. الغرفة تطل على منظر خلاب لغابات تمتد إلى ما لا نهاية، وتحت النافذة يمر مجرى مائى سريع التدفق يحدث خريرا يبعث فى النفس حالة هدوء. وكان هو ثانى الحضور. كان شابا فى الثلاثين من العمر يطلق لحيته ويحف شاربه، سمح الملامح، طويلا ورفيعا، يرتدى بنطالا واسعا جدا لونه رمادى كالح مثبتا بحمالات، وقميصا واسعا دون أزرار لونه بين الأبيض والرمادى.

استغربت لأول وهلة ولكن لأننى شاهدت فيلما أمريكيا يتحدث عن الآميش أدركت أنه منهم. تعارفنا وتحدثنا وكان أقل الشعراء الذين عرفتهم عبر حياتى حديثا. كان هادئ الطبع وعذب الكلام وشديد الاحترام. بعد أسبوعين تجرأت وسألته عن هذه الطائفة التى يتبعها. وعرفت أنه اختار الانضمام إليهم وهو يقترب من سن العشرين. وبدأ يجيب عن أسئلتى بقدر من الاقتضاب.

كان ما لفت انتباهى فى الفيلم الأمريكى أن الآميش يركبون عربات تجرها الأحصنة ولا يمكنهم امتطاء عربات بموتور، فكيف إذن ركب طائرة بمواتير عبر بها الأطلنطى حتى وصل إلى اسكتلندا؟ أجاب أن كل جماعة تحدد مجموعة القوانين التى تتبعها بناء على إرادتهم المشتركة. ولكن هناك ولا شك خطوط عامة تجمعهم. ففيما يخص السيارات فالجميع يتفق على عدم امتلاكها، ولكن جماعات تبيح استخدامها وأخرى لا تبيح. أما بالنسبة إلى جماعته فيمكنهم استخدام ما يتحرك بموتور. الآميش لا يتعاملون مع عالم الصورة. فالتليفزيون حرام والسينما حرام. أما فيما يتعلق بالصور الفوتوغرافية فيمكنه مشاهدتها على شرط ألا تكون هذه الصور لكائنات حية باستثناء عالم النبات.

قال لى إنه قبل انضمامه للآميش كان يعشق مشاهدة الأفلام السينمائية وأنه يظن أن أقسى القوانين عليه وطأة هى الخاصة بعدم مشاهدة الأفلام ولكنه يتفهم ذلك تماما. كما لا يمكنهم امتلاك تليفون بغض النظر عن نوعه محمول أو أرضى، ولا يمكنهم أن يعيشوا فى منزل به تليفون، ولكن يمكنهم استعمال الهاتف العمومى.

فالإنسان يمكن لو كان الهاتف فى يده أن يتقول بكلام عصبى، أو أن يقتل بعض الوقت فى حديث بلا فائدة. ولكن عندما يأخذ الإنسان الزمن الكافى للنزول من منزله والذهاب إلى حيث الهاتف العمومى، فهو فى هذه الحالة سوف يتفكر ويتروى فيما سوف يقوله ولن يمضغ الزمن فى كلام بلا معنى. الملابس يجب أن تكون فضفاضة لا تظهر معالم الجسد، ويجب أن تكون ألوانها باهتة لا تجذب البصر ولا تلفت الانتباه. بعضهم يمنع منعا قطعيا استعمال الأزرار فى الملابس.

الأهم من كل ذلك أنه ممنوع عليهم تماما التعامل مع عالم السياسة أو حتى التعامل مع أجهزة الدولة. فهذا حرام صريح. فالمشاركة فى الانتخابات حرام، اللجوء إلى القضاء حرام، الترشح لأى منصب سياسى أو له علاقة بالدولة حرام. لو تعرض أحدهم للسرقة لا يستطيع أن يقدم شكوى للشرطة ولكنه يذهب للمسئول على إدارة الجماعة للبحث فى الأمر. فهم يعيشون لذلك فى حالة عزلة كاملة عن المجتمع الأمريكى. أهم ما يميز فكرهم هو «الخضوع» الكامل للإرادة الإلهية و«الخشوع» أمام الله بما يكبح النفس ويقومها ضد الغرور والشعور بالذات.

اللافت للانتباه أنه خلال هذه الفترة لم يكفرنى أو يكفر من معنا من كتّاب، ولم يحاول أن يقنعنى بما يؤمن ولم يدّعى أنه يعرف ما أنوى وما أقصد وما فى قلبى من هواجس وشكوك وإيمان. لم يتهم أى نظام بالكفر، لم يصرخ فى وجهى بعذاب القبر. ولم يعلن أنه الوحيد الذى يمتلك الحقيقة. لم يقل أن الآميش هو الحل.

فهم للغرابة يؤمنون بحق الاختلاف. كنا نقرأ لشاعر هندوسى، وبعدها لشاعر بوذى وكان يكن لهما ولدينيهما كل تبجيل. التطرف الدينى موجود فى كل أنحاء العالم ومقيم فى أرواح الكثير من البشر، ولكنه فى مصر يزعق نهارا وليلا بتخطيط أمريكى وتمويل خليجى وتواطؤ من الحكومة المصرية لأهداف سياسية قصيرة النظر. ماذا لو أدرك هؤلاء كما يدرك الآميش أنهم ليسوا بالضرورة يمتلكون المعرفة الوحيدة الحقة.

خالد الخميسي  كاتب مصري