الأسطى - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 1:24 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الأسطى

نشر فى : الجمعة 28 أغسطس 2020 - 8:45 م | آخر تحديث : الجمعة 28 أغسطس 2020 - 8:45 م

في زمن غابر، كان لقب "أسطى" عنوانًا للمهارة والاقتدار، الأسطى في حرفته مَصدرُ ثِقة، يضطلِع بالعمل المَطلوب؛ فيحملُ المسئوليةَ كاملةً، ويؤديها على أكملِ وجه.
***
الأسطى النجَّار يُتقِن ولا بُد صنعتَه؛ يقطع ألواحَ الخشب ويصلُها بمهارة، لا يترك سطحًا خشنًا دون عنايةٍ تُحيله رائقًا أملسًا، ولا يتغاضى عن نتوء في غير مَحَلِه دون أن يضبطَه ويُعيده إلى مَوضِعه. لا يُفلِت مِنه مِفصَلٌ أو يعوج له قائمٌ؛ فالأمر كلُّه تحت السيطرة ما أمسَك بمُعداته وأدواته وانخرطَ في العمل.
على المِنوال ذاته أسطوات آخرون؛ الكهربائي والسبَّاك والنقَّاش؛ كلٌّ يتحلى بالصَّبرِ والرغبةِ في الكمال. لا يتخلّى أحدهم عن الدِقَّة والالتزام، بل يزيد فيهما ويستفيض.
***
يجد الأسطى حلًا لكل مُعضلة، يعرف كيف يُرضي زبونَه ويُقدم له ما يحتاج؛ ولو كان مَطلبُه صعبًا عسيرًا. عرِفت مِن الأسطوات كبارًا لا يقفُ أمامَهم عائقٌ. يجد الواحد مِنهم سعادتَه في التغلُّب على مُشكلة؛ تبدو في نظرِ صاحبِها عَصِيَّةً مُستحيلة، ويكون انتصاره عليها بمنزِلةِ انتصار يُضافُ إلى لقبِه ويعززُ مِن مَكانته. يفخر الأسطى بما ابتكر مِن حلول، ويجعله جزءًا من سيرته الذاتية التي يحكيها ما اقتنص دقائقَ للراحة، فيتناقلها الزبائن بينهم تأكيدًا على حُسن اختيارهم، وتحريضًا لمعارفِهم وأصحابِهم على اللجوءِ إليه ما احتاجوا.
***
يُقال إن الأسطى كلمةٌ أصلُها فارسيّ وتعني "الأستاذ"، وقد استُخدِمَت في مصر إشارة إلى مُعلِّم الحرفة الذي يتمتع فيها بالخبرة الواسعة، والذي يعرف من الخبايا والأسرار ما انغلق على الآخرين. للأستاذ دومًا تلاميذ، وللأسطى الحِرفيّ صبيان؛ يراقبونه ما استطاعوا ليتشرَّبوا منه الصنعةَ، ويتابعونه مُنتبهين لكُل صغيرة وكبيرة، ويقفون مُنبهرين أمام تمكُّنه، ويتمنون لأنفسِهم بعضًا مِن صِفاته.
***
مَرَّ الزمنُ وتغيَّرت الحال. لم يعُد الأسطى هو كبيرُ الصنعة ومُعلمُها، ومَن له فيها باعٌ طويل، بل حاز اللقبَ كلُّ مَن انتمى إلى حِرفةٍ ولو دون وجهِ حَقّ، وتهاوت على أيدي الدخلاء صفات عديدة. سقطَت هَيْبةُ الأسطى واستُبدِلَت بها الخِفَّةُ و"الفهلوة"، كما تنحَّت المهارةُ جانبًا وسادت الخَيبة. كان الأسطى يعملُ في هُدوء؛ لا يُحدِث ضجيجًا بغير داعٍ؛ فصار الصخبُ والضَّجيجُ من الصِفات اللازمة، وكأن بهما يخفي القائمُ على العمل انعدامَ موهبته، وضحالةَ معرِفته، وقلَّة مَهارته. لم يعُد اللقبُ الأثيرُ باعثًا على الثقةِ، ولا ضامنًا لجودةِ المُنتَج النهائيّ، إنما شاهدٌ على انهيار الاثنين: الحِرفة وصاحبها.
***
تراجع مستوى كثير الحرف التي تعتمد على حذق صاحبها ودقة عمله، وفقد اللقب بريقه بعدما توزع بالقسطاس على الجميع؛ فظهر الاحتياج إلى ألقاب أخرى، تعطي صاحبها اللمعان المطلوب، وتعلق بالأذهان. اقتبست ألفاظٌ مِن مِهن أخرى واستعملها بعض الحرفيين؛ فصار من بينهم "الباشمهندس" و"الدكتور"؛ فيما لم يدرس أحدهم الهندسة بجامعة أو معهد، ولا تقدم لنيل درجة الدكتوراة، ولا هو تجاوزًا بطبيب.
***
للأسطى في الذاكرة مكان محفوظ؛ كلما تعقدت الأمور استدعت الذاكرة عمله، وترحم الناس على أيامه، وذكروها بالخير، وصبوا لعناتهم على المحدثين، وتبادلوا الحكايات عما أفسد بعضهم أو كلهم، وتمنوا لو عاد الأسطى فلان، أو ظهر الأسطى علان؛ إذ لطلبوه وتركوا له بيوتهم آمنين عليها، مطمئنين لما سيصنع فيها.
***
قليلون هم أبناءُ الأسطوات الذين يحظون بالمديح ذاته، وبالمَهارات نفسِها في حياة آبائهم أو بعد المَمات. تعاملت مع أكثرِ مِن وَريثٍ لحرفة؛ فما رَضيت إلا قليلًا عن النتيجة، وما وجدت صورةً شبيهة. صحيح أن المِهنةَ تُوَرَّث، وأن المَوهبةَ كذلك تحملُ في طياتِها جينات ينقلها جيلٌ إلى جيل؛ لكن طبيعةَ الظروف الراهنة تلعبٌ هي الأخرى دورَها؛ فإذا انحسرت المُنافسةُ وانحصرَت بين السيء والأكثرِ سوءًا؛ لم يعُد هناك داعٍ لبذلِ الجَهد، وما دامت السوقُ مَفتوحةً والزبائنُ حاضرين، والصيتُ قليلُ التأثير؛ فلا مكان لتحرّي المِثاليةِ والكمال.
***
الأحوالُ المُتدهوِرة تُضيفُ إلى المسألة؛ إذ المُكونات الرديئة والخامات المُتدنية في متانتها وجودتها هي السائدة، والجيد منها يرتفع ثمنُه بما يجعله عزيزًا على الاستخدام، والحِرفيّ يسعى لتوفير قوتِه فيأتي بالأقل سعرًا وجودة، والمُحَصِّلة في نهايةِ الأمر تعيسة.
***
عثرت مُؤخرًا على أسطى مِن الزَّمن القديم، حصُلت على رقمِ هاتفه بضربةِ حظٍ مُبهِجَة. طلبتُه فإذا بصوتِه يأتي مُرَحبًا. أسطى عباس لا يزال كما كان؛ رائقُ البال، عظيمُ المهارة، جديرٌ بالثِقة والاطمئنان.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات