بدت المشاعر الإنسانية فوق طاقة التحمل وهو يستعيد أدق تفاصيل الرحيل فى (28) سبتمبر (1970).
ماذا كان يجرى داخل بيت الرجل الذى خرجت الملايين لوداعه فى مشهد لا مثيل له فى التاريخ؟
ران صمت طويل قطعته نوبات بكاء كأن «جمال عبدالناصر» مات الآن.
كانت الساعة تقترب من الرابعة صباحا فى مطلع عام (٢٠٠٣).
على خط هاتفى آخر من داخل نفس البيت كان معنا شقيقه «عبدالحميد» ندقق بعض التفاصيل.
انهار هو الآخر ودخل فى موجة بكاء مرير.
البكائيات غلبت أسرة «عبدالناصر» على مدى عقود طويلة غير أنها لم تجهر بآلامها ولا اشتكت مما جرى لها بعده.
هذا المشهد يلخص الحالة التى كان عليها «خالد عبدالناصر» من توحد مع الماضى أثناء تدفق ذكرياته.
لم نجلس مرة واحدة نستقصى الوقائع وفق خطة معدة سلفا، كل شىء ترك لتيار التذكر وكتب بنفس الطريقة.
فى أى وقت يتصل ويروى والكلام يوضع على ورق قبل إعادة صياغته والتدقيق فى تواريخه وسياقه.
بعد ثورة «يناير» بشهور قليلة رحل «خالد» بعد معاناة مع المرض غير أن روايته لما كان يجرى خلف الأبواب الموصدة تظل أهم الروايات للجانب الآخر فى شخصية «جمال عبدالناصر».
الأب قبل الرئيس والإنسان قبل السياسى.
بقدر اتساقه مع الأفكار التى تبناها أخذ مساحته الاستثنائية فى التاريخ.
قوة نموذجه الإنسانى أنه يصدق نفسه ويصدقه الناس.
لم يكن يعرف أحد كيف يتصرف فى حياته الخاصة لكنه عندما تحدث نجله الأكبر لم تكن هناك مفاجأة.
(١)
ذات مرة قال لى: «لن يتركونى أبدا ونهايتى إما مقتولا أو سجينا أو مدفونا فى مقابر الخفير».
كان يدرك أن القوى التى حاربها سوف تحاول الانتقام وأن الانتقام سوف يكون مريعا.
قرر ألا يخذل شعبه أبدا لكنه الآن ـ يوم ٩ يونيو ـ يشعر بأنه المسئول عما حدث.
مسئول بحكم موقعه.
مسئول بحكم الثقة فيه.
شعور قاس أفقد وجهه ابتسامته المعتادة.
رأى أن دوره انتهى وأن مصر دخلت مرحلة جديدة بلا «جمال عبدالناصر».
عندما خرجت الملايين فى شوارع القاهرة تطالبه بالبقاء وتعرض المقاومة سأل «عبدالناصر» الأستاذ «هيكل» مستغربا وحائرا: «ليه»؟
كان يتصور أن الناس سوف تخرج لتنصب المشانق فى ميدان التحرير فإذا بها تهتف باسمه.
(٢)
فى صباح اليوم التالى ـ ١٠ يونيو ـ جلسنا معا على مائدة الإفطار.
لم تكن عادته طوال السنوات الماضية أن يتناول وجبة الإفطار معنا.
ربما تصور أنه قد لا تتاح له فرصة ـ مرة أخرى ـ للجلوس مع أسرته.
«لن يتركونى».
جلس على مائدة الطعام بملابس غرفة النوم.
لم نتحدث فى شىء.
حاولنا أن يكون الحوار عاديا.
لم يكن هناك شىء عادى حتى يكون الحوار عاديا.
حوار متقطع و«ماسخ».. كلمات قليلة ثم يعود الصمت.
الصوت الوحيد المسموع هدير مئات الآلاف التى حاصرت بيت «منشية البكرى» منذ إعلان قرار التنحى.
لم يتحرك الرئيس من مكانه ولا حاول مرة واحدة أن يلقى نظرة على الجموع المحتشدة.
كان يشعر بأنه خذلهم.
وكان شعوره عميقا بالمسئولية.
وقفت فى شرفة حجرتى أتابع ما يجرى فى الشوارع المحيطة.
عدت قائلا: «يا بابا الناس عاوزاك».
قال بلهجة أدرك معناها ويدرك معناها كل من تعامل مع «عبدالناصر» عندما يحزم أمره على شىء: «مالكش دعوة».
صمت ولم أعد للموضوع مرة أخرى.
أمى قطعت صمت المائدة بعبارة دوت فى وجدانى.
تحدثت باسم أولادها.
باسم العشرة الطويلة.
باسم الحب الكبير للرجل الذى لم يعد رئيسا للجمهورية ولا يدرى أحد أى مصير ينتظره هذا المساء:
«إحنا معاك على الحلوة والمرة».
لم يعلق ولا جرؤ أحد من أشقائى على التعليق.
كانت أمى تركب المواصلات ومستعدة أن تركب المواصلات مرة أخرى.
كانت زوجة ضابط صغير ومستعدة أن تعود لأيام أصعب من الأيام التى كانت.
لعلها تساءلت دون أن تفصح: «هل يتركونه لى؟».
(٣)
السيرة الصحية لوالدى ترتبط بتواريخ السياسة.
أثناء الحصار الاقتصادى الذى فرضه الغرب على مصر أصابه مرض السكر عام ١٩٥٨.
بعد نكسة ٦٧ نالت منه مضاعفات السكر بصورة موجعة. إرهاق العمل المتواصل بالليل والنهار لتحرير الأراضى المحتلة بقوة السلاح أصابته بأزمة قلب.
أزماته الصحية كان يمكن باستمرار تداركها، مضاعفات السكر جرى السيطرة عليها، أما الإرهاق وتحدى أوامر الأطباء بالراحة فلا سبيل لتداركها.
من يعرف «عبدالناصر» فى هذه الأيام يدرك بسهولة أنه غير مستعد للنوم مرتاحا أو الاستمتاع بأى شىء قبل إزالة آثار العدوان.
(٤)
صباح كل يوم فى سنوات حرب الاستنزاف تعودت أن أنظر فى عينى والدى.
لو وجدتها «حمراء» أعرف على الفور أن الليلة الماضية شهدت عملية عبور، لا ينام حتى يطمئن على عودة مقاتلينا سالمين.
ذات مرة كنا نشاهد مع شقيقى الأصغر «عبدالحكيم» فيلم كارتون بقاعة السينما.
مر الرئيس علينا، بدا القلق على ملامحه كأنه ينتظر خبرا خطيرا.
جلس معنا.
فجأة دخل أحد أفراد قوة الحراسة.
مال على الرئيس هامسا.
قام متوجها لمكتبه.
بعد قليل عاد إلينا والبشر يملأ وجهه، يضحك ـ للمرة الأولى منذ النكسة ـ ضحكته المميزة.
قال لنا: «دمرنا إيلات».
(٥)
تطلع فى الوجوه الفقيرة التى خرجت من حوارى الحلمية تهتف باسمه.
قال لى حزينا: «شوف المصريين غلابة إزاى. دول يستاهلوا أكتر من كده. شايف الفقر قد أيه. بقايا الاستعمار يا ابنى. الاستعمار كان يريد المرض إرثا والفقر إرثا والجهل إرثا».
قال لى يومها: «شعبنا غلبان بس واعى. إياك تستهر بيه».
هذا هو أبى الذى أعرفه.
(٦)
لم أعامل أبدا طوال سنوات الدراسة بطريقة خاصة.
فى أثناء مباراة لكرة القدم بملعب المدرسة حدث احتكاك مع أحد اللاعبين المنافسين.
ضربنى على إثره بـ«البوكس» فى وجهى.
أخذت ثلاث غرز لغلق الجرح.
فى اليوم التالى على الغداء لاحظ «عبدالناصر» الجرح.. وسألنى: «إيه الحكاية؟».
رويت له ما حدث.
على الفور طلب من سكرتيره الخاص «محمد أحمد» الاتصال بناظر المدرسة والتنبيه عليه ـ باسم رئيس الجمهورية ـ عدم اتخاذ أية إجراءات ضد التلميذ الذى ضربنى.
كان تقديره أن أبوته لى لا تعطينى أية ميزة نسبية على زملائى.
(٧)
كنا عام (1970) قبل رحيل والدى بأسابيع قليلة.
خطر لأمى أن تسأله: «خالد ح يتخرج السنة الجاية، وأنا عارفة إنك حتبعته للجبهة الأمامية».
قال أبى: «أيوه يا تحية».
الرئيس قدر مشاعرها كأم وربت على كتفيها.
غير أنه كان يعتقد أن الواجب الوطنى يقتضيه الدفع بابنه لخطوط القتال الأمامية عند أول نقطة مواجهة مع إسرائيل.
فماذا يقول الناس إذا دفع «عبدالناصر» بأولادهم لخطوط القتال الأمامية، وأعفى ابنه من ضريبة الدم.
أمى كانت تدرك ـ عن يقين ـ أنه سوف يدفع بى لخطوط القتال الأمامية.
قالت لى فيما بعد: «أنا عارفاه».