تستهوينى كثيرًا تلك الكتب التى كتبها أجانب عن مصر فى القرون الماضية، خصوصًا فى فترات التحول، أو فى سنوات ما بعد الأحداث الكبرى، لأنهم يكتبون بحرية كبيرة، وبتفصيلات إنسانية مدهشة.
لا تزعجنى نظرتهم الاستشراقية التى تحتفى بالغريب وغير المألوف، ولا عدم قدرتهم على تجاوز عالم «ألف ليلة وليلة»، الذى ما دام كان مؤثرًا على الدوام فى صورة مصر والشرق عمومًا، فكل ذلك صار متوقعًا ومتكررًا، لكن من المهم أن نرى صورتنا فى عيون الآخر، دون تزويق أو تجميل.
وهذا كتاب طريف وممتع للغاية صدر عن دار العربى، من تأليف جيرميا لينش فى عام 1890، بعنوان «مذكرات سيناتور أمريكى فى صعيد مصر: مصر 1890»، وترجمه سمير محفوظ بشير.
جيرميا لينش عاش فى مصر لمدة عام كامل فى بيت فى العباسية، وهو أديب أمريكى، وسيناتور، ورئيس للبورصة، وكتابه مهم جدًا، لأنه غنى بالتفاصيل والشخصيات المهمة والثانوية التى التقاها، والكثير من صفحات رحلته التى توزعت بين القاهرة والصعيد، يدل على قدرة كبيرة على الوصف الأدبى الساحر، كما أنه زيّن كتابه بنحو 16 صورة فوتوغرافية، التقطها لمصر وأماكنها القديمة والحديثة، ولبعض الشخصيات التى لفتت نظره من الرجال والنساء.
تزيد أهمية الكتاب إذا عرفنا أن مؤلفه جاء إلى مصر بعد 7 سنوات فقط من الاحتلال الإنجليزى لمصر، وفى كتابه فصلان عن الإنجليز، وطريقة إدارتهم للبلاد، كما أنه وصل إلى القاهرة فى عصر الخديوى توفيق، وبعد هزيمة أحمد عرابى، وهى سنوات انتقالية مهمة ومؤثرة.
يُضاف إلى ذلك اهتمام لينش بالآثار المصرية القديمة، حيث يقدم زيارات تفصيلية لأهرامات الجيزة وسقارة، ومقابر بنى حسن، والدير البحرى، ومعابد الكرنك، ودندرة، وكلها كتابات تشهد له بالإطلاع، وربما الدراسة الدقيقة، لما وصل إليه علم المصريات، والتنقيب على الآثار فى زمنه.
لم يكتفِ لينش بالزيارة والكتابة عن المناطق الأثرية، وعن فن التحنيط، لكن المترجم يخبرنا فى مقدمة الكتاب، أن لينش اشترى مومياء لامرأة من جرجا، وأرسلها إلى نادى البوهيميين فى سان فرانسيسكو، ولما عاد إلى مصر فى عام 1912، اشترى مومياء أخرى، وأرسلها أيضًا إلى ناديه المحبوب!
لكن طرافة الكتاب تنبع، من ناحية أخرى، من لقاء رجل أمريكى قادم من العالم الجديد، بأقدم حضارة معروفة، وهو يحكى كذلك عن الوجود الأمريكى فى مصر، فى تلك السنوات المبكرة، وعن القنصل الأمريكى فى القاهرة، وعن وكلاء هذا القنصل من المصريين فى مدن الصعيد، مثل بنى سويف وأسيوط والأقصر، بل يخبرنا لينش عن استعانة المحاكم المختلطة بقضاة أمريكيين، وفى الكتاب حكايات عن أمريكيين مقيمين فى مصر منذ سنة مثلًا، ولعل تلك الفترة تسجل اهتمامًا أمريكيًّا خاصًا بمصر أو بمنطقة الشرق الأوسط عمومًا.
يعتبر لينش أن زيارة مصر متعة واستراحة للمواطن الأمريكى الذى لا يهتم سوى بالعمل، وبأن يكون ثريًا، أما صورة أمريكا عند المصريين فى تلك الفترة فترتبط بالثراء الفاحش، رغم أن لينش يسخر من الراتب المتواضع الذى يحصل عليه القنصل الأمريكى، ما يضطره أحيانًا للاستدانة، أو لامتهان عمل آخر، بالإضافة إلى مطالب مواطنيه الأمريكيين السخيفة التى تصل إلى مستوى مطالبة القنصل بحجز تذكرة لحضور حفلة راقصة فى قصر عابدين!
فى الكتاب فصل ممتع عن استقبال الخديو توفيق لمؤلف الكتاب وللقنصل الأمريكى شويلر، ومدى الحفاوة الاستثنائية التى استقبلا بها، وجلسات التدخين فى حضرة الخديو، وملاحظة لينش المتكررة عن حب المصريين للقهوة وللتدخين، رجالًا ونساء. وبينما يشعر لينش بالازدراء تجاه إسراف وديون الخديو إسماعيل، فإنه يبدو معجبًا بطيبة وبساطة وتدين الخديو توفيق، ومن التزامه بالاقتران بزوجة واحدة فقط، بحيث يبدو استثنائيًا بين حكام زمنه الشرقيين.
يصف لينش ببراعة أسواق القاهرة، ويرثى لأحوال المصريين الذين يعانون من الفقر والجهل والمرض، بالذات أمراض «الرمد» التى تهاجم الأطفال والكبار، كما يتوقف عند أحوال المرأة، بصرف النظر عن الدين، فالمسيحيات واليهوديات المصريات قد يتمتعن ببعض التعليم، لكنهن لا يخرجن إلا فى ظروف استثنائية، ويقضين معظم الوقت فى البيوت، فى انتظار الزوج المناسب.
ثمة صفحات فى الكتاب نابضة بالحركة، حيث يصف المؤلف -مثلًا- رقص الغوازى الذى يقترن كما قال بحركات الأكروبات، والغوازى فتيات صغيرات السن للغاية، يعملن حتى سن العشرين، ثم يعتزلن ويتزوجن، وكثير من العروض التى يصفها لينش تجمع بالفعل بين الرقص، وبين ألعاب الأكروبات، كأن تقوم الراقصة بالإمساك بكأس من الرمان بأسنانها، وتتناول ما فيه، ثم تعيده إلى مكانه بنفس الطريقة.
ويينما يتحدث لينش عن نشاط اليهود التجارى والمالى، وكان عددهم فى القاهرة وقتها يناهز 15 ألف نسمة، فإنه يشيد أيضًا بالإصلاحات المالية والإدارية للإنجليز، وفى تنظيم مياه الرى، ويتوقع عدم خروجهم من مصر، لأهمية موقع مصر لتأمين وجود الاحتلال الإنجليزى فى الهند، والحقيقة أن تحليل لينش لفكرة احتلال مصر، فيه كثير من النضج والذكاء، وكأنه محلل استراتيجى يسبق عصره وزمنه.
مصر التى كتب عنها لينش كان عدد سكانها لا يزيد على سبعة ملايين نسمة، وتنتهى خطوط السكة الحديد فيها عند أسيوط، وهو يرثى بالتأكيد أحوال دولة صنعت الحضارة، وينقل أحيانًا شكاوى من كثرة الضرائب، ومن تعسف المحاكم المختلطة، لكن لديه أيضًا أحكامًا عامة ساذجة حول استكانة المصريين، وحول ضعف الروح العسكرية، قياسًا إلى هزيمة جيش عرابى، رغم تقديره لوطنية عرابى نفسه.
لا يتخلص لينش كذلك من عالم «ألف ليلة» الذى وسم الشرق كله بطابعه، ويربط صورة القاهرة دائمًا بهذا العالم الغابر، وإن كان له عذر بالتأكيد، لأن مصر وقتها كانت تحاول التخلص من آثار الحقبة العثمانية الطويلة.
إننا حقًا أمام وثيقة فريدة ومثيرة للاهتمام، تخص تاريخنا بكل ما فيه، وبكل مكوناته الثرية التى تستحق التأمل والاعتبار.