«طفيلي».. رائحة الفقر التي لا تزول! - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 9:03 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«طفيلي».. رائحة الفقر التي لا تزول!

نشر فى : الخميس 28 نوفمبر 2019 - 9:20 م | آخر تحديث : الخميس 28 نوفمبر 2019 - 9:20 م

يقدِّم الفيلم الكورى الجنوبى «طفيلى»، الفائز بالسعفة الذهبية لمهرجان كان 2019، نموذجًا ناضجًا للكوميديا السوداء، ومزيجًا متماسكًا من الدراما الاجتماعية الخفيفة، وفيلم التشويق جيد الصنع، ومن حيث المضمون فإن أخطر ما يقدمه الفيلم هو القراءة المزعجة للتفاوت الطبقى الذى لا يمكن عبوره إلا بالاحتيال أو بالقتل، لن يتحقق الصعود أبدًا، ولن تزول رائحة الفقراء، التى لا يشمها إلا الأغنياء.

نحن أمام سيناريو محكم للغاية، يستدرجنا فى البداية لكى نضحك، ونحن نرى أسرة كيم الفقيرة، وهى تتسلل إلى قصر عائلة بارك الثرية، أسرة كيم وأفرادها أذكياء للغاية، والأسرة الغنية من السذج والبلهاء الذين لا نعرف بالضبط كيف حققوا هذا الثراء الفاحش، ولكن فى اللحظة التى نظن فيها أن أسرة كيم قد سيطرت على القصر، وأن الصعود الطبقى قد تحقق ولو بالاحتيال، تنقلب الأحداث رأسًا على عقب، وتدخل على الخط عائلة ثالثة فقيرة تسكن قبو القصر، ويبدأ صراع الفقراء معًا.

تنجلى المهزلة عن تراجيديا دموية، ويتحول حلم اليقظة إلى كابوس، نحن أيضًا متورطون كمتفرجين، لقد ضحكنا على اللعبة، ولكنها تحولت إلى جد، ومن يتجاوز الخط الطبقى سيعاقب، لن يخرج الفقراء إلى القصر، ولكن إلى قبو القصر، والمتطفلون ستتم إبادتهم مثلما يبيدون الناموس بالدخان فى الحى الفقير فى أول الفيلم، لا تنسَ أن الدخان فى هذا المشهد، طال أيضًا عائلة كيم وليس الناموس فقط، فى إرهاص ذكى لما سيحدث لاحقًا.

فى «طفيلى» تتعرض الأسرة الثرية لغزو جماعى من أسرة كيم التى ترتزق من صناعة علب البيتزا، بعد أن فقد رب الأسرة عمله مع إفلاس المحلات التى يعمل بها، الابن والابنة لم يكملا تعليمهما لأسباب مادية، ولكنهما سيسيطران على ابنة وابن عائلة بارك، كما سيصبح الأب سائقًا للعائلة الثرية، وستصبح الأم مديرة منزل وطاهية فى القصر الضخم، السيناريو بأكمله مصمم على أن الوصول هبوط، والخطة الناجحة أكذوبة، والذكى لن يربح رغم كل ما فعل، وكأن الفقر قدر مقدور، سيظهر قبو مواز داخل القصر، حبكة فرعية مدهشة، تصب فى الحبكة الأصلية، تنويعة جديدة على نغمة الفقر، تدفع الأحداث إلى الأمام، وتقودنا إلى الكارثة.

كل تفصيلة فى مكانها بالضبط، وكل شخصية مهمة وواضحة المعالم، الشاب الذى يغادر البلاد مثلًا هو الذى سيفتح الباب لغزو الأسرة للقصر، وعناصر مثل الرائحة وأجهزة الموبايل، وإشارات التلغراف والمياه، يتم توظيفها طوال الفيلم بمكر فنى بديع، الطفل الصغير والأب والأم من عائلة بارك كلهم يشمون رائحة الفقر، وكلهم يمتلكون هذا الشعور الطبقى، الأب مثلا لا يمانع أن يمارس سائقه السابق غرامياته فى السيارة الفاخرة، ولكنه يستاء جدًا لأن ذلك حدث على المقعد الذى يجلس عليه، مياه الأمطار التى تمنح القصر بريقًا خلابًا، تتحول إلى مياه مدمرة فى الحى الفقير، الموبايل الحديث سيتراجع مع ذروة الصراع، لتحل محله إشارات مورس التلغرافية، والطعام سيصبح خطرًا داهمًا، من فاكهة الخوخ، إلى سيخ الشواء، الذى يستخدم فى القتل.

ليس سهلًا أبدًا أن يتغير الجو العام على هذا النحو، ولكن مخرج الفيلم بونج جون هو، وهو أيضًا كاتب القصة والمشارك فى السيناريو، نجح فى ذلك بامتياز، فمن هزل يلامس حدود المسخرة، ننتقل إلى تشويق يلامس حدود الرعب، بناء تراجيكوميدى فذ، وأداء ممتاز من كل الممثلين، وتحكم محسوب فى الإيقاع رغم طول الفيلم، وبينما يبدو القصر لامع الإضاءة مثل متحف شاسع، فإن قبو القصر، والحجرة فى الحى الفقير، يتشاركان ألوانًا كئيبة مقبضة.

وبينما يكرر أفراد عائلة كيم كلمة «مجاز» فى سياقات مختلفة، فإن فيلم «طفيلى» هو مجاز كبير لفكرة الصعود الطبقى فى مجتمع لا يسمح بهذا الصعود، لعبة لاختبار الناس اللى فوق يقوم بها الناس اللى تحت، مجاز اللعبة الطبقية تعبر عنه الصورة ببلاغة عندما يقبع الابن مختبئًا أسفل سرير ابنة بارك، لا يلفت إلا انتباه الكلب، وعندما يقبع رب عائلة بارك وزوجته فوق كنبة يختبئ تحتها عميد عائلة كيم، طبقة تركب أخرى، وفقراء يأكلون فقراء، فيا لها من ديستوبيا خرجت من رحم يوتوبيا وهمية.

محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات