مساءات الضجر - داليا شمس - بوابة الشروق
الإثنين 6 مايو 2024 11:30 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مساءات الضجر

نشر فى : السبت 29 يناير 2022 - 7:30 م | آخر تحديث : السبت 29 يناير 2022 - 7:30 م

البرد والكورونا جعلا للحياة إيقاعا مختلفا. النهارات صارت أقصر، ودرجات الحرارة فى انخفاض مستمر، والحركة أيضا أقل بكثير، إذ نقطع بالكاد المسافة من الكنبة إلى السرير والعكس صحيح، مع زيادة الرغبة فى قضاء أمسيات عنوانها الرئيسى «الأريكة والبطاطس»، أو كما يقولون بالإنجليزية «couch potato» أى الشخص الكسول الذى يقضى وقتا طويلا فى مشاهدة التليفزيون وقرمشة التسالى. وإذا لا قدر الله أصبت بالكورونا أو كنت من المخالطين لمريض يصبح تحديد الإقامة جبريا، والليالى طويلة، سواء أمام الشاشات أو بصحبة ناس لا تعرف معظمهم على شبكات التواصل الاجتماعى.

تستمع لمن يظهرون على الشاشة واحدا تلو الآخر، وتقرأ تعليقات البعض على اللابتوب، وتردد فى سرك: هؤلاء ينامون بجرأة غير معقولة، جرأة الجاهل... فالمجتمع الجاهل لا يملك أفكارا معروضة للنقاش لأن كل فكرة فى حوزته مقدسة أو شبه مقدسة أو ربع مقدسة. لا أتذكر من قائل العبارة، لكنها تثبت صحتها كل يوم. لا سبيل لهزيمة هؤلاء فى النقاش حول فيلم أو حادثة تافهة تحدث ضجة غير مبررة أو حتى حول تفاصيل الإصابة بالكوفيد وتداعياته. لا أحد يعترف بجهله أو يقول «لا أعلم»، الجميع يدلى بدلوه منذ بداية الأزمة الصحية السياسية الاقتصادية الاجتماعية العلمية المركبة.

***

فى العزل تصبح مثل أسد محبوس فى عرينه، بين أربعة جدران، يلف فى دوائر ويجتر الأفكار السلبية والذكريات السيئة، فجسم الإنسان ليس مصمما ليعيش معزولا وحيدا فى البيت، وحين يحدث ذلك ينشط جزء المخ الذى يسبب الألم، نشعر بالضياع والتشوش، وغالبا نأكل لتعويض الأشياء التى افتقدناها، وتكون حالة من القلق العام. نحاول استدعاء ملاك النوم لكنه لا يستجيب، فنقرر سماع ألحان حزينة كأنها القدر.

نردد وراء المغنين «يا ليل.. يا عين» على طريقة عبدالمطلب وهو يهز رأسه من باب السلطنة، ثم تبدأ رحلة البحث عن سبب اختيار «يا ليل.. يا عين» تحديدا، وذلك بالطبع لشغل مساءات الضجر. أصِلُ إلى حكاية أعلم على الأغلب أنها ليست حقيقية وقد لا تمت للواقع بصلة لكنها تعجبنى، أسطورة مصرية شعبية تروى أن رجلا اسمه «ليل» كان يحب فتاة اسمها «عين»، وحدث أن فقدت «عين» حبيبها «ليل»، إذ غرق فى النهر وابتلعه التمساح. أخذت تنادى «يا ليل.. يا ليل»، وهى تبكى حزنا على فقده، ولما يأست من ملاقاته رمت نفسها فى النهر وماتت أيضا، فراح أهلها ينادون «يا عين.. يا عين» بحثا عنها، وتحولت هذه الترديدة إلى غناء للتعبير عن الألم والشجن بسياقات صوتية فيها شىء من التلحين الأدائى، وتطورت إلى ما يشبه الموال.

***

أنتقل من ليالى فريد الأطرش الزخرفية إلى أم كلثوم وهى تغنى من شعر رامى «ويقصروك يا ليل.. ويطولوك يا ليل»، ومنها إلى جو مختلف تماما مع فيروز وزياد الرحبانى فى تنويعاتهما العبقرية «ليلى ليلى ليلى، ليلى يا ليلى، ياااا ليلى ياااا ليلى»، أغنية من كلمة واحدة لها وقع خاص. بعدها ينطلق صوت الشيخ أحمد برين «ليالى ليالى ليالى حلوة الليالى الليالى وأنا شايف النور يلالى (...) هجرنى حبيبى الغالى (...) وإنت اللى شاهد يا ليل» فى ارتجالات إلى ما لا نهاية، ففى الشعر والغناء العربى الليل ليس له آخر، وهو ليس للنوم بل للسهر، لذا تتبع «يا ليل» الطويلة «يا عين» وهى أيضا للسهر لا اليقظة. التكرار والتماثل فى الكلمة يؤديان إلى ما يشبه الدوران، وبالتالى النشوة، وهو المطلوب. ثم يشدو سيد مكاوى «يا ليل طول شوية»، فأرد على الفور: «أكثر من ذلك؟» لأغوص أكثر فى سحر الليالى والمواويل.

لا أحد يعلم على وجه الدقة متى بدأ الغناء العربى فى الاهتمام بالليل، فقد كان دوما من لزوميات الشعر الجاهلى فى الصحراء العربية، كما ورد لفظ «الليل» ومشتقاته حوالي خمسين مرة فى آيات القرآن الكريم، وفق بعض المصادر. واختلفت أيضا الآراء حول نشأة الموال، إذ ذكر السيوطى مثلا فى كتابه «شرح الموشح» أن الموال ظهر فى عصر هارون الرشيد، فبعد أن بطش بالبرامكة أمر أن يُرثى وزيره جعفر، حينها رثته جارية له بشعر عُرف بالمواليا، وشاع هذا النمط. وفى رواية أخرى لعبدالكريم العلاف صاحب كتاب «الموال البغدادى»، انطلق الموال من مدينة واسط التابعة للواء الكوت فى العراق. وهناك رأى يقول إن بداية الموال قد ترجع إلى شعر الرجز الذى يعد من أسهل أنواع الشعر وأقلها تكلفا.

***

أستمر فى متابعة موسيقى «قيام الليل» بشغف، وإذا بى أغرق فى حلقات الذكر وغناء المتصوفة الذين تقربوا للخالق بالنغم والرقص وتركوا إرثا متعدد المشارب كسر فكرة احتكار القصور للذة الموسيقى ومتعة الرقص، وصار له العديد من الدراويش على مر الزمان، خاصة قبل زيادة الاهتمام بمسائل التحليل والتحريم. انشغل بالروايات المختلفة وبالصلة بين انقطاع العمران وصناعة الغناء، كما وصفها ابن خلدون فى مقدمته. الليل لا ينتهى، والحديث عنه أيضا لا ينتهى.

 

التعليقات