مناقشة لأفكار الدكتور زقزوق حول القدس - أحمد يوسف أحمد - بوابة الشروق
الإثنين 29 أبريل 2024 9:36 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مناقشة لأفكار الدكتور زقزوق حول القدس

نشر فى : الأربعاء 29 أبريل 2009 - 5:49 م | آخر تحديث : الأربعاء 29 أبريل 2009 - 5:49 م

 ما كادت ردود الفعل التى خلفتها زيارة الموسيقار الإسرائيلى بارينباوم للقاهرة تهدأ حتى طالعتنا الصحف بدعوة الدكتور محمود حمدى زقزوق وزير الأوقاف المسلمين إلى زيارة القدس، وما لحق بهذه الدعوة من تصريحات تعبر عن آراء له فى القضية الفلسطينية وقضية القدس. والدكتور زقزوق ليس أى شخص، فهو قبل أن يكون وزيرا عالما إسلاميا مستنيرا، ولذلك فإن آراءه لا يمكن أن تمر مرور الكرام لما يفترض أن يكون لها من تأثير على الرأى العام ورأى النخبة المثقفة فى مصر.

والواقع أنه لا يمكن موضوعيا الفصل بين الجدل الذى دار حول زيارة بارينباوم للقاهرة، وذلك الذى فجرته تصريحات زقزوق، وكنت قد كتبت فى سياق آخر رأيى فى زيارة بارينباوم وفحواه أنه إذا كانت إدارة الصراع مع إسرائيل تتطلب إقامة علاقات مع قوى سياسية واجتماعية وقيادات سياسية وثقافية داخل إسرائيل يمكن أن تلتقى مع العرب فى قواسم مشتركة فإن المرء لن يجد رمزا أفضل من بارينباوم للتعامل معه.

غير أن المشكلة أن ثمة حاجزا نفسيا ما زال يجثم على صدورنا، أو صدور أبناء جيلى على الأقل، فأنا من جيل ينطوى تكوينه على «عقدة» تجاه إسرائيل، وأقصى ما أتصوره أن يتم التوصل إلى سلام مستقر بين إسرائيل والعرب. أما أن تكون هناك علاقات طبيعية على مستوى المثقف العادى أو المواطن العادى فهذا أمر يتطلب وقتا ويحتاج جيلا غير الجيل، الذى عاصر الحروب وكابد المحن فى إدارة الصراع مع إسرائيل. الأهم من ذلك أن زيارة بارينباوم قد أثارت من الإشكاليات أكثر مما يبدو للوهلة الأولى.

أما الإشكالية الأولى فهى أن إرساء المبدأ يفتح المجال لسوء تطبيقه، فقد كنا إزاء شخصية لا خلاف على مواقفها الصحيحة من القضية الفلسطينية، لكن مجرد حضور إسرائيلى فى مثل هذه الزيارة ذات الطابع الثقافى الرفيع يفتح الباب لحضور غيره ممن قد تكون مواقفهم أقل وضوحا، ثم تأخذ المعايير الصارمة فى التآكل حتى يفتح الباب للإسرائيلى العادى الذى ينطلق من منطلقات صهيونية. هكذا تعامل بعض الفضائيات العربية مع مشاركين إسرائيليين. فى البدء كان المستضافون يتبنون وجهات نظر عادلة نوعا وعاقلة كثيرا بالقياس إلى المزاج الإسرائيلى السائد، ثم أصبح هناك من يأتى ليشرح وجهة النظر الرسمية الإسرائيلية، ثم وصلنا إلى مرحلة الهجوم علينا من خلال منابرنا الإعلامية دون تعقيب من جانبنا.

أما الإشكالية الثانية فقد أثارت فكرة أن ما يتم من «تطبيع» على الصعيد غير الرسمى لا توجهه خطة على مستوى الدولة الوطنية أو النظام العربى، وليس من شأن هذا النهج أن يحقق إنجازا من أى نوع بل إن ثمة مؤشرات على أن المتحمسين لزيارة بارينباوم لم ينظروا إليها من هذا المنظور أساسا، بدليل أن الرجل عندما ألقى كلمة فى نهاية الحفل أكد فيها احترامه لكل من اعترض على قيادته اوركسترا مصرى قوطع من بعض الحاضرين بالقول «فليذهبوا إلى الجحيم». كذلك اعتبرت صحيفة مصرية قومية شهيرة أن الكلمة «السياسية»، التى ألقاها بارينباوم بدت غريبة، وأنه قد عكر مزاج سامعيه بحديثه عن العدل فى الصراع العربى ــ الإسرائيلى.

تتمثل الإشكالية الثالثة والأخيرة فى أن البعض يعتقد أن ما يقوم به بارينباوم ومن حذا حذوه يمكن أن يمثل حلا للصراع، ومع كل الاحترام لهذه الجهود فإنها لا يمكن أن تثمر إلا بعض الإنجازات ذات الطابع التكتيكى الرمزى. فلن يأتى استرداد الحقوق عن طريق هذه الخطوات الرمزية فيما نحن إزاء كيان عنصرى يزداد تعطشه للدماء، ويتعاظم تطرفه السياسى يوما بعد يوم، متسترا بخلل هائل فى ميزان القوى، وإنما يكون استرداد الحقوق بإدارة شاملة رشيدة للصراع تبدأ بالتحسب لهذا الخلل، وتخطط لتصحيحه، وتعمل على ذلك بالفعل.

فى هذا الإطار يمكن أن نناقش أفكار الدكتور زقزوق، التى ورد فيها أنه لا يجوز التعامل مع قضية القدس على أنها قضية فلسطينية أو عربية فقط وإنما على اعتبار أنها قضية إسلامية، ومثلما يحج المسلمون إلى بيت الله الحرام فى مكة يجب عليهم أيضا أن يزوروا القدس والمسجد الأقصى بمئات الآلاف سنويا ولو بتأشيرات إسرائيلية، حتى نؤكد للعالم أجمع أن القدس قضية كل المسلمين، وأكد أنه لو تم الأخذ بكلامه «لأجبر العالم على الاعتراف بالقدس عاصمة للدولة الفلسطينية»، وانتقد صمت العالم الإسلامى المنقسمة دوله وشعوبه انقساما شديدا فيما نترك إسرائيل تفعل بالقدس ما تشاء، وتقوض المدينة، وتغير معالمها بالكامل، وقال إن عالمنا اليوم لا يحترم إلا القوى، ثم أضاف أن القضية الفلسطينية وقضية القدس بصفة خاصة أصبحت قضية «الفرص الضائعة»، ولو استجاب العرب والفلسطينيون للحلول التى توصلت إليها مصر باتجاه التسوية العادلة للصراع العربى ــ الإسرائيلى، خاصة ما عرضه الرئيس السادات، لما تعقدت المشكلة.

المسألة إذن ذات شقين يتعلق أولهما بفكرة زيارة القدس كوسيلة لإجبار العالم على الاعتراف بها عاصمة للدولة الفلسطينية، والثانى بمنهج فى حل الصراع العربى ــ الإسرائيلى ككل، وثمة ملاحظات عديدة يمكن أن ترد على هذه الأفكار بعضها إجرائى وبعضها الآخر يتعلق بالمضمون. أما الملاحظات الإجرائية فأهمها أن الدكتور زقزوق يحمل مسئولية وزارية، وآراؤه تصب فى صميم إدارة السياسة المصرية تجاه القضية الفلسطينية، ومن المستحسن أن يكون هناك توزيع رسمى واضح للأدوار تجنبا للخلط وسعيا وراء وحدة الموقف، ومن ثم أن يكون الحديث فى أمور ذات صلة بالسياسة الخارجية كتلك التى طرحها الدكتور زقزوق من اختصاص وزير الخارجية حصرا، لكن الدكتور زقزوق يستطيع على أى حال أن يدفع بأنه يتحدث كعالم ومثقف وليس كرجل سياسة.

من ناحية الجوهر لا شك أنه من المفيد أن تكون القدس قضية إسلامية، كما أنه من المفيد أيضا أن تكون قضية مسيحية بالإضافة إلى كونها قضية فلسطينية وعربية، لكن هذا شىء والدعوة لزيارتها بمئات الآلاف سنويا ولو بتأشيرات إسرائيلية شىء آخر، فدخول القدس بتأشيرة إسرائيلية يعنى اعترافا ضمنيا بالاحتلال الإسرائيلى، الذى لا يسمح لمسلمى القدس أنفسهم بالصلاة فى المسجد الأقصى، فهل تغير زيارة مئات الآلاف من المسلمين القدس سنويا من سلوك سلطة الاحتلال فى هذا الصدد؟ وليست لدى العالم مشكلة من حيث المبدأ فى الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة فلسطين، إذ لا يجرؤ أى من دوله حتى الآن على الاعتراف بقانونية ضم القدس الشرقية بعد احتلالها فى1967 لدولة إسرائيل، وإنما المشكلة فى إسرائيل التى لم تسمح حتى الآن بأن تقام فى القدس شعيرة واحدة من شعائر الاحتفاء بها عاصمة للثقافة العربية فى 2009، فكيف لها أن تسمح بأنشطة إسلامية فى القدس يمكن أن تهز السيطرة الإسرائيلية عليها؟

يبقى بعد ذلك عدد من المقولات التى تتردد كثيرا فى مجادلات الصراع العربى ــ الإسرائيلى مثل تعبير «الفرص الضائعة» وإهدار الفلسطينيين والعرب فرص تسوية الصراع، والواقع أنه قد آن الأوان لكى توضع هذه المقولات فى مكانها الصحيح تاريخيا وعلميا، فلم يكن الصراع العربى ــ الإسرائيلى يوما صراع «فرص ضائعة» بمعنى أن العرب أو الفلسطينيين أهدروا آفاقا لتسويته أو حله بسبب قصر نظرهم الاستراتيجى. لقد اغتصبت أرض فلسطين فى 1948 بموجب قرار التقسيم، فهل كان مطلوبا من صاحب الحق أن يسلم باغتصابه بمجرد صدور هذا القرار الجائر؟ لا يسلم صاحب الحق بضياع حقه إلا بعد التأكد من أن عودته إليه بالكامل من رابع المستحيلات. هكذا فعل العرب عقب هزيمة 1967 فقبلوا ما يسمى بالتسوية التاريخية (إسرائيل فى حدود ما قبل 5 يونيو 1967مقابل عودة الأراضى المحتلة فى عدوان 1967)، وهكذا فعل الفلسطينيون فى أعقاب حرب أكتوبر 1973(دولة الضفة والقطاع وعاصمتها القدس فى مقابل دولة إسرائيل فى حدود ما قبل 5 يونيو 1967). أما القول بأنهم ضيعوا فرصة اللحاق بجهود الرئيس السادات عقب زيارته القدس فى 1977 فهو قول مردود، لأنهم لو فعلوا لما تحركت إسرائيل قيد أنملة على طريق التسوية مع مصر، إذ كان هدفها الاستراتيجى هو إخراج مصر من ساحة الصراع العسكرى وليس حل القضية الفلسطينية بطبيعة الحال، وينسى الكثيرون أن مصر دخلت مفاوضات مع إسرائيل حول الحكم الذاتى للفلسطينيين عقب اتفاقية كامب ديفيد 1978، لكنها ــ أى مصر ــ أخفقت فى التوصل إلى أى نتيجة من خلال تلك المفاوضات.
إن عالمنا اليوم ــ كما قال الدكتور زقزوق بحق ــ لا يحترم إلا القوى، ولن تكون زيارة المسلمين القدس بتأشيرات إسرائيلية عملا نافعا فى بناء القوة الإسلامية المطلوبة لتحريرها، وإنما يبدأ التحرير بالوعى بحقائق الصراع حول القدس وتصحيح الخلل فى ميزان القوى مع مغتصبيها.
أستاذ العلوم السياسية

--------

فدخول القدس بتأشيرة إسرائيلية يعنى اعترافا ضمنيا بالاحتلال الإسرائيلى الذى لا يسمح لمسلمى القدس أنفسهم بالصلاة فى المسجد الأقصى، فهل تغير زيارة مئات الآلاف من المسلمين القدس سنويا من سلوك سلطة الاحتلال فى هذا الصدد؟

أحمد يوسف أحمد أستاذ العلوم السياسية بكلية الإقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، وعميد معهد الدراسات العربية