أرى في الهند عجبا - جميل مطر - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 7:57 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أرى في الهند عجبا

نشر فى : الأربعاء 29 مايو 2019 - 10:30 م | آخر تحديث : الأربعاء 29 مايو 2019 - 10:30 م

أن تجرى انتخابات حرة فى عالم اليوم لأمر فى حد ذاته مثير ومنعش، أما أن تجرى انتخابات حرة فى أيامنا هذه وفى دولة بظروف الهند فأمر حقا عجيب. كان من حسن حظى أن تنشأ أول علاقة لى بالديمقراطية فى الهند حين كلفتنى حكومة بلادى أن أخدمها فى نيودلهى. قامت بعدها علاقات أخرى بينى وبين الديمقراطية، فى إيطاليا مثلا وكندا وشيلى والأرجنتين لم تترك واحدة منها فى نفسى ما تركته تجربتى المبكرة فى الهند. كنت صغيرا وهو سبب دافع للانبهار وكنت أيضا متشوقا وشغوفا ومحبا ومتعاطفا وكلها أسباب حاضنة للانبهار بهذه الحالة الخاصة جدا من النضج السياسى.

بعد مرور ما يزيد على ستين عاما وجدت نفسى خلال الأسابيع القليلة الماضية مشدودا إلى دورة جديدة فى حملة انتخابات برلمانية تجرى فى الهند. راح ظن أصدقائى فى بداية الأمر إلى أننى وقد تغيرت بالمعرفة الأوسع والتجارب العديدة لن أكون شديد التعلق بالحالة الهندية. أخطأوا الظن، فالهند كانت أول خطوة واسعة وراسخة أخطوها فى علاقة قوية ومتشعبة بالعالم الخارجى بعد خطوات صغيرة خطوتها وأنا طالب بالجامعة نحو علاقات سريعة بفلسطين غير المحتلة وفلسطين المحتلة والسودان وليبيا. أقمت علاقات بشعوب عديدة وانغمست فى حب واحترام ثقافات كثيرة. اختلفت الهند. فى الهند اجتمعت ظروف الحب والحنان مع سحر الهند وأساطيرها وسخاء الفكر والتاريخ مع عنفوان الشباب لتصل بى إلى أبواب مرحلة جديدة من مراحل التكوين. بعد الهند وأينما ذهبت أو عشت فى رحلة العمر كانت الهند تطل من ناحية أو أخرى على ذاكرتى تجددها وتنعشها.

***
النتائج تعلن فوز حزب بهاراتيا جاناتا فوزا كاسحا وسقوط حزب الكونجرس سقوطا مدويا. لم تفاجئنى هذه النتائج باستثناء معلومة هزتنى إلى الأعماق، إذ جاء فى الأنباء أن راهول غاندى، رئيس حزب الكونجرس وحفيد جواهر لال نهرو وأنديرا غاندى لم يتمكن من الاحتفاظ بمقعده فى بلدته ومسقط رأسه فى ولاية أوتار براديش. معنى الخبر ومغزاه أن الشعب الهندى قرر أن عائلة غاندى أدت واجبها وآن أوان رحيلها من المشهد السياسى. أعتقد الآن وبعد تأمل أن الخبر يعنى ما هو أهم. يعنى نهاية طبقة سياسية تسلمت حكم الهند من المستعمر الإنجليزى وقادت بحزب الكونجرس المسيرة الديمقراطية، لتتسلمها منها طبقة سياسية جديدة بجذور وأفكار وعقيدة وقواعد شديدة الاختلاف. ألم يحدث هذا فى كل البلاد النامية وبلدنا منها؟

***
لمن يعود الفضل فى أنه ما زالت تجرى فى الهند انتخابات برلمانية حرة؟. لمن يعود الفضل فى المحافظة على النظام الديمقراطى سليما إلى حد كبير؟. أقولها وبدون تردد: الفضل فى الحالتين وفى أمور أخرى يعود إلى الجهاز الإدارى للدولة الذى توارث عبر أجيال متعددة أخلاقيات ديمقراطية وستمينستر وتقاليدها وأساليب إجراء مفاوضات فى بلد شديد التعقيد. لاحظ مثلا أن أكثر من مليون لجنة انتخابية استقبلت حوالى أربعمائة وعشرين مليون ناخب على امتداد أسابيع الانتخاب. الفضل يعود للبيروقراطية ولكنه يعود أيضا إلى هذا التنوع الفريد فى المجتمع الهندى. ففى هذا المجتمع يتوزع الهنود على قائمة بمائة وثمانين عقيدة دينية على رأسها الهندوسية يليها الإسلام ثم المسيحية. كانوا قبل وصول الإنجليز ينطقون بأربعمائة وستين لغة، اعترفت الدولة بعدد اثنين وعشرين منها بينما يرصد المهتمون اثنين وأربعين لغة أخرى. إن نسى الهنود فلن ينسوا أنهم عاشوا لسبعين عاما فى دولة موحدة تتمتع بدستور لم يتعرض لتجديدات دورية، دستور وضعه الآباء المؤسسون ينص على شرطين لوجود الدولة ونهضتها، اشترط الاشتراكية والعلمانية. والشرطان الآن محل تهديد جسيم.

***
فى نظرى، ونظر مراقبين آخرين، لم ينفذ نارندا مودى تعهداته للناخبين الذين أتوا به مرتين متتاليتين بنصر ساحق لم يحصل على مثله حزب فى الهند منذ آخر انتخابات اشتركت فيها السيدة أنديرا غاندى. لم تحقق الهند فى عهده المنقضى هذه الأيام أى زيادة فى الإنتاج الزراعى. صدق الخبراء الذين وصفوا الحالة الزراعية فى الهند بالأزمة. أضف إلى أزمة الزراعة أزمة أخرى تمس جميع شعوب الهند وطوائفها. إنها أزمة التوظيف. أعرف أن كل مجتمعات العالم، أو أغلبها، تعانى من تفاقم البطالة وهى إحدى أهم المشكلات التى تسببت فيها الأزمة المالية التى ضربت الأسواق العالمية فى نهاية العقد الثانى من القرن الحالى.

***
مرة أخرى يجرفنى تعاطفى مع الهند والهنود. لا يحق لى أن أتعامل بالتحليل والبحث مع مشكلات الهند، والصين أحيانا، بأسلوب تعاملى مع إيطاليا واتحاد جنوب إفريقيا ومصر. أنا، فى الحالة الهندية، أراقب سلوك نظام حكم تعلن جهة فيه، حكومية فى الغالب، عن ستين ألف وظيفة خالية فيتقدم لشغلها تسعة عشر مليون مواطن، وتعلن جهة مسئولة عن التعداد والتخطيط أن الهند فى حاجة إلى عشرة ملايين وظيفة جديدة كل عام، وتتنصت جهة أخرى على هواتف مستخدمى المحمول وعددهم يزيد عن الأربعمائة مليون شخص فاستحقت الهند أن تكون الثالثة فى ترتيب الدول فى هذا المجال.

***
حرصت قبيل إعلان نتائج الانتخابات وفى أعقابها مباشرة على أن أراقب تصرفات السيد مودى، فللرجل أساليب فى التخاطب والتعبد وازدراء المنبوذين أثارت انتباهى منذ كان حاكما لولاية جوجارات، هناك بالمناسبة حقق نسبة نمو عالية معتمدا على حزب منضبط نظاميا ومتعصب دينيا وطبقة وسطى من صغار التجار والمستثمرين. ومن هناك زحف بحزبه ليحتل الفراغ الذى خلفه على المستوى القومى، أى على كل الهند، الانسحاب المتسارع لنفوذ ومكانة حزب الكونجرس، حزب عائلة غاندى. ضحاياه، أقصد ضحايا سياسات وخطب مودى النارية منذ أيامه الأولى، كانوا المسلمين والمنبوذين من الهندوس. وبالفعل انطلق الحزب بقوة رهيبة فور أن قام المتعصبون الهندوس بحرق المسجد التاريخى، وعمره خمسمائة عام، فى مدينة أيوديا معقل الكثير من الجمعيات والحركات الإسلامية ليعيدوا بناء معبد هندوسى يزعم أنه كان الأقدم فى الهند عندما دمره الفاتحون المسلمون.

***

تابعت وراقبت مودى وهو يتأهب لإعلان الفوز. رأيته يصطحب عددا من المصورين الصحفيين فى رحلة إلى الجبال حيث راح يقضى منفردا فى أحد الكهوف ساعات تأمل وصلاة. رأيته يمر فى قاعات مبنى حكومى ليتوقف ويصلى أمام كل تمثال يرمز إلى أحد الآلهة وأمام كل لوحة ترمز إلى مخلوق مقدس. ما أراه أمامى لا يشبه من قريب أو بعيد قصد الدستور الهندى من شرط العلمانية. هذا هو الرجل الذى يعمل بمساعدة جماهير الهند ليحل فى الصورة الهندية محل جواهر لال نهرو، زعيم كل الهنود الذى كان يتفادى الظهور فى صورة تجمعه بالرموز الدينية الهندوسية أو غير الهندوسية.

***
نجح حزب بهارتيا جاناتا لأن مجهودا ضخما بذله الزعيم مودى. قيل إن هذه الانتخابات تحولت إلى استفتاء على شخص مودى، وأتفق مع ما قيل ولكنى أضيف عوامل أخرى؛ إذ كان التفاف الشعب حول الجيش فى مواجهته لباكستان قبل انطلاق الانتخابات بأيام ما يشبه الدعوة إلى التفاف مماثل حول مودى فى الانتخابات وصنع صورة البطل القومى. ثم إننا لا نستطيع تجاهل دور التيارات الشعبوية واليمينية الصاعدة والحركات الدينية المتعصبة فى العالم بأسره فى إثارة التكاتف والتضامن داخل صفوف الأغلبية الهندوسية. من ناحية أخرى، لا يخفى علينا التأثير المباشر وغير المباشر للسباق بين الهند والصين على أولوية الوصول إلى مقاعد القيادة الدولية واحتلال أحدها. لا شك أن تصاعد الشعور القومى، وخصوصا المتلفح بتراث دينى وثقافى أصيل فعلا وممتد فى أعماق التاريخ ومن حوله تصطف طوابير أصحاب القمصان السوداء من شباب الحزب، قد أطلق بالفعل الجنى من القمقم، فإما إلى فاشية قومية ودينية أو إلى فوضى عارمة.

***
مستقبل الديمقراطية الهندية تحيط به الشكوك، ومن سخرية الأقدار أن يكون حاميها، ناريندا مودى، هو مصدر الخطر عليها.

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي