يتجلى في كتاب "أقاصیص أقصر من أعمار أبطالها" للروائي طارق إمام مزيجا متفاعلا من التجريب والواقعية السحرية، فطارق إمام یواصل في هذا الكتاب الصادر عن دار الشروق هوايته المفضلة في التجریب، وفي الكتابة بطریقته السحریة الممیزة التي یتمیز بھا منذ أول أعماله، وحتى الآن ھنا یواصل إمام تأسیس طریقته السردیة المختلفة المتمردة على كل القدیم، والتي تصنع لنفسها مدرسة أدبیة خاصة، وھنا التمرد والتجریب والتجدید على كل شئ على السرد، على بنیة النص ذاتها، واللغة ففي 125 أقصوصة یتجلى ذلك التجریب الذي یضحى في ھذا النص تجریبا في التجریب نفسه فهنا یتبنى الكاتب القصة الومضة تلك المشهدیة التي تأسرك بسرعتها، وصغرها، وتكثیفها، ولعل تلك من المرات القلیلة التي یتبنى فیھا الكاتب أن یخط عملا كاملا بتلك الطریقة فلقد فعلها من قبل، لكن لیس بكل تلك الأقاصیص التي بناھا وھندسها بواقعیته السحریة التي مزجها بواقع الحیاة العادیة كاسر بها كل نمط عادى.
لو حللنا بنیة النصوص فإن العمل الذي نحن بصدد تحلیله ھو ثورة في القصة القصیرة فلقد نجح الكاتب ھنا في قول كل ما یرید دون أن یؤثر التكثیف على كتابته بل تشعر بأن كل نص مخطوط في الكتاب ھو نص منفصل بحد ذاته نص مكتمل یصلح لأن یكون عملا متفردا بذاته كل نص ھو عالم مكتمل الأركان، أما بالنسبة لسرد النصوص، ولغتها فإن ذلك السرد الشاعرى المسرود بتلك اللغة الشعریة البدیعة یجعلك لا تستطیع التفرقة ھل ھذا نصا سردى نثرى، أم أنه قصیدة شعریة، وربما یكون قصیدة نثریة، لكن المؤكد ھو أن الشعر، واللغة الشعریة ھي الغالبة على النصوص فالقصیدة ھنا حاضرة بقوة سواء في البنیة، السرد، واللغة التي ھي أحد أھم مقوماتها، ومكوناتها.
قسم الكاتب الأقصوصات إلى ثلاثة أقسام، وھي: "لأننا نولد عجائز"، ھایكو المدینة"، و"لأننا نموت أطفالا"، ھنا نرى عن كثب تلك العجائبیة حتي في اختيار العناوين التي ربما تشي بالعبثية وعدم الواقعية، لكن كیف ذلك؟ وھي تمثل كل واقعیة الحیاة التي نعیشھا.
لو نظرنا بعین فاحصة لبعض تلك الأقصوصات لنتفحصھا مثل أقصوصة " الحیاة" التي یفتتح بھا الكتاب، والتي بھا الكثیر من الفلسفة حول الحیاة من أول اسمها مرورا بذلك السرد الذي یعبر به الكاتب عن تشابه الوجوه، وتلك الأمكنة، وأن تلك الحیاة ما ھي إلا فصول لنفس الشخصیات، لكن بأشكال، وأسماء مختلفة، ھي تلك التعریة التي سنجدھا في كل الأقصوصات تعریة الحقیقة أمام نفسھا، تعریة الإنسان أمام نفسه، وتعریة النص أمام نفسه ھو الآخر.
في أقصوصة كأقصوصة "العمى" یكسر طارق إمام نمطیة الحقیقة بأن یصبح العمى ھو القاعدة، والرؤیة ما ھي إلا نقمة یفر الناس منها كأنه تعریة لماھیة الحقیقة، وتكشیف أنه لا یوجد شئ ثابت. في أقصوصة "نائم یحلم بنائم" یواصل إمام طرح التساؤلات حول ذلك الإنسان الذي لا یعرف شیئا حتى عن أبسط أحلامه، ذلك الإنسان الذي یترك ما یعرفه لیلهث خلف ما لا یعرفه حتى لو ضیع ما في یده.
في أقصوصة أخرى بعنوان "عندما انقلب العالم" التي من الممكن أن نعتبرھا مرتبطة بالأقصوصة التي قبلها، والتي بعنوان "عندما انقلب الناس"، والتان تطرحان تساؤل الوعى والرؤیة تعریه لترینا أنه لیس واحدا بل مختلف منطلق من تلك الغرائبیة في سرد ذلك العالم الذي قلب رأسا على عقب.
في القسم الثاني من الكتاب، والذي ھو بعنوان "ھایكو المدینة" ذلك المصطلح الیاباني الذي یدل على شعر مكثف سریع من مقاطع قلیلة، وذلك ھو الذي فعله إمام 51 قصیدة مكثقة، أو من الممكن أن نطلق علیھم الجمل الفلسفیة التي تحمل كل شئ في ثنایاھا من الحیاة، الموت، الثورة، الھویة، الحقیقة، والكثیر عن الواقع الخیالي. في القسم الثالث الذي جاء بعنوان "لأننا نموت أطفالا" نقرأ أقصوصة "مسودة قصة موضوعھا مسودة قصة" نقرأ ذلك النص الواعى بذاته الهارب من أوراقه الذي لا یحكى. في أقصوصة "القصیدة" نقرأ مكانة القصیدة لدى الكاتب تلك القصیدة التي ستكتب في كل الأحوال، والقصیدة ھي صلب كل النصوص المخطوطة. في أقصوصات "لست كلمة، ولست یدا"، التلویحة،"حین نغادر"، و"بلا مسمى" نرى تلك الهویة المفقودة الذات المفقودة التي لا تعرف من تكون تلك الواقعیة المستمدة من الغرائبیة.
في الكثیر من الأقصوصات أیضا قرأنا تلك العلاقة التي بین الحیاة والموت التي یراھا الكاتب بأن ھناك أناس موتى، لكنھم أحیاء، وھنالك أحیاء موتى مثل أقصوصة "المیراث". بعد تلك الرحلة السریعة في متن بعد الأقاصیص نرى أن طارق إمام قد نسج خیوط أقاصیصه بمشهدیة شاعریة لعب بها في رسم للعالم بعیونه تلك الأقاصیص القصیرة، ھي جزء أصیل من عالم إمام الغرائبي الذي یشید على أعمدة السحریة المستقاة من الواقع، فنرى في النصوص أنها واعیة بذاتها ھي تعرف بأنها نصوص، ونحن نعرف ذلك، لكننا نتفاعل معها بكل حیویة لما فیها من حیاة بثها فیها الكاتب الذي ھو بطل كل النصوص متمردا على البطل، أو القصة القصیرة التقلیدیة خاطا نوع من الأقصوصات سيسجل باسمه.