بعد مرور أكثر من 7 عقود على ثورة 23 يوليو، يتجدد الجدل حول طبيعة هذا الحدث التاريخي الذي غيَّر وجه مصر والمنطقة بأسرها، فهل هي مجرد صفحة طُويت من الماضي، أم أنها قوة حية لا يزال إرثها يلقي بظلاله على حاضرنا؟، هذا التساؤل هو ما يدفعنا لاستكشاف هذا التاريخ المعقد، لا من باب السرد المجرد، بل من خلال تحليل نقدي يعيد تشكيل فهمنا للميراث السياسي والفكري ليوليو.
وفي هذا السياق، تستعرض "الشروق"، رؤى تحليلية من كتب نقدية غاصت في أعماق الثورة، محللةً بصماتها العميقة على بنية الدولة والمجتمع المصري، من بين هذه الأعمال، يبرز كتاب "العلاقات المصرية الأمريكية من التقارب إلى التباعد (1952–1958)" للدكتور محمد عبدالوهاب سيد أحمد، والذي يفتح نافذة على التفاعلات الدولية التي أعقبت الثورة مباشرة، مسلطًا الضوء على العلاقة المعقدة بين القاهرة وواشنطن.
كما نتوقف عند كتاب "صحوة الموت: الفصل الأخير في رواية يوليو 1952" للكاتب الصحفي والمفكر السياسي عبدالعظيم حماد، الذي يقدم رحلة فكرية تتتبع مسار الثورة من لحظة انطلاقها إلى تجلياتها المعقدة في الدولة المصرية الحديثة.
صحوة الموت: الفصل الأخير في رواية يوليو 1952
في مستهل تحليله، يتناول "حماد" الأسباب التي رسَّخت حكم يوليو وأطالت أمده، موضحًا أن ذلك كان "استسلامًا قسريًا للديمقراطية"، ففي بدايات حكم الضباط الأحرار كان لا يزال حزب الوفد بقيادة مصطفى النحاس، يحظى بشعبية كبيرة، إلا أن الحزب العريق، لم يقدم أي مقاومة جماهيرية لنظام الضباط، خلافًا لسجله في مواجهة الانقلابات الدستورية الملكية.
كما أشار إلى أن هذا الصمت كان مدفوعًا بأمل في بناء حياة ديمقراطية سليمة، ولكن عندما انكشف الوجه غير الديمقراطي للثورة، كان الوقت قد فات. حيث كانت الشعب استقبل إنجازات الثورة الأولية، ومنها "إلغاء الملكية، وإعلان الجمهورية، وتحديد الملكية الزراعية، وتأميم قناة السويس، بالإضافة إلى شرعية شعبية هائلة، مما جعل أي حركة ديمقراطية جادة لمناهضتها أمرًا مستحيلًا.
ويتعمق حماد في هذا المشهد، مستحضرًا مقولة منسوبة للنحاس باشا نفسه: "الجيش مثل القطار، إذا تحرك فلن يوقفه شيء إلا نفاذ وقوده أو اصطدامه بعائق أقوى منه". لكن حماد يضيف بعدًا حاسمًا: ما نسي النحاس ذكره هو أن القائد يمكن أن يدرك وجود عائق على السكة، فيوقف القطار ويبحث عن مسار جديد، وهو ما يسميه "المشاركة" التي تحول "الخط الحديدي الواحد" إلى "شبكة خطوط" تتيح حرية الحركة.
ويؤكد حماد أن جمال عبدالناصر قبل هزيمة 1967، كان يتمتع بشعبية حقيقية وكاسحة. لكنه كان بحاجة دائمة إلى إبقاء جذوة "الشعبوية" متقدة، وهي التي برع في إذكائها. فقد "أمم الحياة السياسية" بإلغاء الأحزاب والنقابات المستقلة، وأقام علاقة مباشرة بين "القائد والجماهير"، متجاوزًا أي تنظيمات وسيطة، حتى تلك التي أقامها هو نفسه.
هذه الشعبوية لم تكن فقط للحفاظ على القاعدة الجماهيرية، بل وظفها ناصر ببراعة لتعزيز مكانته ضد المنافسين داخل النظام، وهو ما قاده إلى تأسيس التنظيم الطليعي ومنظمة الشباب لموازنة نفوذ عبدالحكيم عامر ورفاقه في المؤسسة العسكرية.
ويُبرز الكاتب الأدوات الفريدة التي استخدمها ناصر للحفاظ على هذه الشعبية ومنها: الكاريزما الخاصة، روح الدعابة، فهمه للمزاج المصري، وتوظيف عبقرية الكاتب محمد حسنين هيكل في صياغة الشعارات الموجزة، وصوت أحمد سعيد الإذاعية في "صوت العرب"، وإبداع صلاح جاهين الفني.
ويؤكد حماد، أن هزيمة 1967 كانت نقطة تحول حاسمة في شعبية زعيم الثورة فرغم القبول الشعبي التلقائي بعودة عبدالناصر عن التنحي بعد الهزيمة تعبيرًا عن رفض الاستسلام، إلا أن هذا الرفض سرعان ما تحول إلى تساؤلات عقلانية حول مسئولية عبدالناصر ونظامه عن أسباب الهزيمة.
وفي هذا السياق، يوضح حماد أن نظام يوليو "أنهى شرعيته بيده" بهذه الهزيمة، وهو ما اعترف به عبدالناصر نفسه. مؤكدا أنه على الرغم أن نصر أكتوبر 1973 أعاد "قسطًا كبيرًا من الشرعية المفقودة" لنظام يوليو بقيادة السادات، إلا أن بنية النظام ظلت كما هي، متآكلة وغير صالحة للاستمرار.
ويُبرز حماد إحدى أخطر سلبيات نظام يوليو 1952، والتي تفشت في سنوات المخاض السابقة على قيام النظام نفسه، وهي شيوع ثقافة الإفلات من العقاب، في كل مكان، وفي كل جهاز، وفي كل تكوين اجتماعي على أرض مصر المحروسة، موضحا أن هذه السياسة اتّبعتها الأنظمة المتعاقبة، وتجلى ذلك في حجب الحقائق عن هزيمة 1967 ومن بعده تمرد الأمن المركزي 1986، حيث "لا أحدًا باستثناء المسئولين المباشرين يعرف الحقائق كاملة". ويكرر الكاتب أن هذا النمط من حجب الحقائق ظل يتكرر باطراد في كل المآسي.
وبحسب حماد، فإن نظام يوليو يشبه "جسد يحتضر، لكنه يرفض الموت". لم يسقط تمامًا، لكنه يعيش حالة من الغيبوبة التاريخية، مشيرًا إلى أن التجربة أثبتت أن "الشرعية الثورية" وحدها لا تكفي، مؤكدا أن التوازن بين الشرعية والفاعلية السياسية لا يتحقق إلا في ظل نظام ديمقراطي حقيقي.
يشار إلى أن كتاب عبدالعظيم حماد ليس مجرد تأريخ لحقبة هامة في تاريخنا المعاصر، بل هو قراءة نقدية حية تنبض بالحاضر، وتصر على أن أزمة النظام الذي ولدته الثورة ليست عابرة، بل مزمنة، وإنها امتدت لتفسر الكثير مما عايشناه لعقود، وبلغت ذروتها في ثورتي 2011 و2013.
كما إن "صحوة الموت" ليست رثاءً ليوليو فحسب، بل هي دعوة صريحة لتجاوز أطلالها، إنها مراجعة عميقة للسردية التي حولت الثورة من لحظة تحرر إلى نظام مغلق، ثم إلى ميراث مثقل بالعجز. وفي جوهرها، تذكرنا بأن الاحتفاء الحقيقي بذكرى يوليو لا يكون بترديد شعاراتها، بل بقراءة تاريخها بعين مفتوحة على المستقبل، ومستعدة أخيرًا لفصل الدولة عن "الضابط الأول"، وبناء ثقافة حقيقية للمساءلة والمسئولية.
"العلاقات المصرية الأمريكية".. صراع المصالح وخفايا الدبلوماسية
وكما أن النظرة النقدية الداخلية ضرورية لفهم ثورة يوليو وإرثها، فإن استكشاف سياقها الدولي لا يقل أهمية. وفي هذا السياق الواسع للتأثيرات المتبادلة، يكشف كتاب "العلاقات المصرية الأمريكية من التقارب إلى التباعد (1952–1958)" للدكتور محمد عبدالوهاب سيد أحمد، عن أن العلاقات بين الدول لا تُبنى فقط على المبادئ المعلنة أو المواقف الرسمية، بل تتحرك في مسارات معقدة تحكمها المصالح وتتأثر بالواقع السياسي المتغير.
ويقدم الكتاب الصادر ضمن "إعادة قراءة التاريخ.. الجانب الآخر"، قراءة عميقة لسنوات مفصلية في تاريخ العلاقات بين القاهرة وواشنطن، أعوام كانت كفيلة بإعادة رسم خريطة الشرق الأوسط لسنوات تالية.
وتكشف صفحات الكتاب، عن طبيعة شديدة التعقيد للعلاقة بين دولتين مختلفتين في المكانة، والوزن الدولي، لكنهما التقتا خلال فترة شديدة الحساسية في منطقة مصالح استراتيجية فرضت نفسها على الطرفين، حيث كانت مصر في أعقاب ثورة يوليو تبحث عن مكان لها في الخريطة الدولية الجديدة، بينما كانت الولايات المتحدة تحاول تثبيت نفوذها في الشرق الأوسط كقوة كبرى خلفًا لبريطانيا وفرنسا.
ويستعرض الكتاب كيف كان العدوان الثلاثي عام 1956 نقطة تحول حاسمة في العلاقة بين البلدين، إذ وجدت الولايات المتحدة نفسها أمام اختبار مزدوج، فهي من ناحية لم تكن راغبة في دعم الاستعمار البريطاني والفرنسي في المنطقة، ومن ناحية أخرى لم تكن مستعدة لتقف بجانب عبدالناصر القومي الصاعد، الذي لا يخفي توجهاته التحررية واستقلاليته عن الكتلتين الغربية والشرقية. لكن الحسابات الواقعية فرضت نفسها، فواشنطن اضطرت لاحتواء الموقف ووقف العدوان، بينما خرج عبدالناصر من الأزمة كقائد عربي لا ينازع، وأصبح اسم مصر يتردد في عواصم القرار كقوة إقليمية صاعدة.
ويوضح الكتاب أيضًا كيف أن واشنطن لجأت إلى إعلان مبدأ أيزنهاور، كاستراتيجية جديدة للحد من النفوذ السوفيتي في الشرق الأوسط، مؤكدا أن نجاح هذا المبدأ في احتواء أزمة الأردن لا يُخفي فشله في سوريا، حيث بدا أن الرهان الأمريكي على الأنظمة المحافظة لم يعد مجديًا، في مقابل تعاظم التيار القومي الذي وجد في عبدالناصر رمزه الأبرز.
وعبر تحليل لوثائق مجلس الأمن القومي الأمريكي وتقارير الاستخبارات المركزية، يرصد الكتاب كيف توصّل صانع القرار الأمريكي إلى قناعة واضحة بأن عبدالناصر هو الشخصية الأكثر تأثيرًا في المنطقة، وأن التيار القومي الذي يقوده هو القادر فعليًا على ملء الفراغ السياسي الناتج عن تراجع النفوذ البريطاني.
ويقدم المؤلف قراءة دقيقة، موضحًا أن عبدالناصر لم يكن تابعًا للسوفييت كما روج البعض، بل كان يقف على مسافة واحدة من المعسكرين، ويؤمن بقدرة العرب على صياغة مشروعهم الخاصن، مؤكدا أن هذا الاستقلال أغضب واشنطن، وأربكها، ودفعها إلى مراجعة سياساتها مرات عدة خلال عام واحد، خاصة بعد انفجار الوضع في لبنان، ثم ثورة العراق.
من جانب آخر، تتبع الكتاب كيف حاول عبدالناصر أن يناور بين القوتين العالميتين دون أن يُظهر تبعية لأي منهما. فبينما استفاد من الدعم السوفيتي في مشاريع السد العالي والتسليح، ظل يحافظ على خطاب عربي مستقل، ويرفض الدخول في التحالفات العسكرية الغربية. كما اتسمت مواقفه تجاه القضايا الإقليمية بثبات نسبي، عكس رغبة مصر في لعب دور قيادي لا يتبع إلا للقرار الوطني.
ويؤكد الدكتور محمد عبدالوهاب، أن العلاقات بين القاهرة وواشنطن لم تكن تُبنى فقط على الخطابات أو التصريحات العلنية، بل كانت تحكمها رسائل سرية، وتفاهمات غير معلنة، ومفاوضات دبلوماسية مكثفة لم تُكشف تفاصيلها إلا لاحقًا في الأرشيفات الأمريكية. ففي أكثر من مناسبة، حاولت واشنطن استمالة القاهرة بالمساعدات الاقتصادية أو الدعم السياسي، بينما كانت مصر توازن بين قبول هذه العروض والحفاظ على استقلال قرارها.
ولعل من أبرز ما يميز الكتاب أنه لا يكتفي برصد الأحداث، بل يسعى لتفكيك منطق العلاقة نفسها، كيف تتغير السياسات؟ وكيف يمكن أن يتبدل الموقف من تقارب إلى توتر في بضعة أشهر؟ كيف تتشكل التحالفات وفق التوازنات؟ وكيف تكون الشعارات أحيانًا مجرد واجهة لمصالح متشابكة؟ هذه الأسئلة تظل تحوم بين سطور الكتاب، وتمنح القارئ رؤية أعمق لما وراء الخطاب السياسي الرسمي.
كذلك يقدم الكتاب وثائق أرشيفية أمريكية وبريطانية متنوعة، وكذلك مقابلات حية لمؤلفه مع شخصيات بارزة على الجانب الأمريكي والبريطاني والمصري، بالإضافة إلى الاستعانة بتقارير مجلس الأمن القومي، ووكالة الاستخبارات المركزية، ووزارة الخارجية.
لايقدم الكتاب فقط تأريخًا دقيقًا لمرحلة محددة من العلاقات بين دولتين، بل يفتح الباب لفهم أوسع لطبيعة السياسات الدولية، وكيف أن الشعارات كثيرًا ما تكون واجهات لمصالح خفية، وأن المبادئ المُعلنة تُستخدم أحيانًا كأدوات للاستهلاك الإعلامي أو المحلي، بينما الواقع يصاغ في غرف مغلقة، وبناءً على توازنات لا تظهر للعلن.
وختامًا يؤكد المؤلف أن نمط العلاقة بين القاهرة وواشنطن في تلك السنوات اتخذ شكلًا من الشد والجذب، حيث فرضت المصالح نفسها، وظل التقارب والتباعد سمتين رئيسيتين لهذه العلاقة. فكلما اقترب الطرفان ظهرت ملفات خلافية تؤدي إلى تباعد جديد، وكلما تباعدا عادت المصالح لتفرض حوارًا آخر. وهو نمط كما يشير استمر في العقود اللاحقة، وظلت مصر رقمًا لا يمكن تجاوزه، مهما تغيّرت خرائط القوة الإقليمية والدولية.