ما بعد داعش - بشير عبد الفتاح - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 6:55 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ما بعد داعش

نشر فى : الإثنين 1 مايو 2023 - 9:15 م | آخر تحديث : الإثنين 1 مايو 2023 - 9:15 م
ليست التنظيمات الجهادية التكفيرية، التى تدعى فهما لصحيح الدين، وتزعم أحقية بالوصاية على المسلمين، واحتكارا للتحدث باسم الإسلام؛ كما تروج لجدارتها بإحياء دولة الخلافة الإسلامية، بالخَطب الجلل المستحدث على أمتنا.
فإبان العقد الثالث الهجرى، وخلال عهد الخليفة الراشد، عثمان بن عفان، برأسها الشيطانى، أطلت إرهاصات فرق «الخوارج»؛ التى أطلقت على نفسها «الفئة المؤمنة»، أو«أهل الإيمان». ظانين أنهم، دون سواهم، هم المؤمنون حقا. وعلى وقع الفتنة الكبرى، التى تأججت بين رابع الخلفاء الراشدين، على بن أبى طالب، وابن عمه، معاوية بن أبى سفيان، والى الشام، وقتذاك؛ قويت شوكة الخوارج، وتشعبت أشياعهم إلى ما ينيف على عشرين فرقة. انخرط جلها فى صراعات سياسية، وخلافات فقهية، توسلا لدولة خلافة إسلامية بديلة منشودة، كانت إرهاصاتها قد بدأت فى البزوغ عند أطراف الجزيرة العربية.
وسط شيع شتى، برزت فرقة «الخوارج الأزارقة»، بقيادة، قطرى بن الفجاءة، رأس الخوارج الأزارقة، وأعلاهم فقها، وأدبا، وفروسية، وخليفة، نافع بن الأزرق، الذى خرج على الإمام على بن أبى طالب، عقب واقعة التحكيم الشهيرة. حيث نجحت تلك الفرقة فى إنشاء دولة خلافة، امتدت فى مناطق أصفهان، وكرمان، وخراسان، والأهواز، ببلاد فارس. وقد بويع، قطرى، أميرا للمؤمنين، بموازاة خلافتين أخريين متزامنتين. كانت أولاهما من نصيب، عبدالله بن الزبير، فى الحجاز. وثانيتهما لعبدالملك بن مروان فى الشام. ولإضفاء الطابع المؤسسى على دولته، صك، قطرى، عملة ذهبية. وبفضل ما تيسر له من جباية الأموال، وتدبير الموارد، جيش الجيوش، وانبرى فى توسيع خلافته، حتى أنه عمد إلى ضم البصرة. وعلى مدى ثلاثة عشر حولا، ظلت خلافة الخوارج الأزارقة عصية على محاولات خلافتى الحجاز والشام، الدءوبة، لتقويضها أو النيل منها. لكن المقاتل المقدام، المهلب بن أبى صفرة، والفارس المغوار، سفيان بن الأبرد، بتكليف من الخليفة الأموى، عبدالملك بن مروان، وإشراف الحجاج بن يوسف الثقفى، تمكنا من الإجهاز عليها، وتصفية أميرها، قطرى بن الفجاءة، فى العام التاسع والسبعين للهجرة.
مع مضى الزمن، لم تنقطع محاولات الخوارج، ومن سار على دربهم، لإقامة خلافتهم الموعودة، ولو على مذبح تمزيق الأمة، وإرباك عقيدتها؛ من خلال تبنى خطاب بيانى براق فى ظاهره، لكنه هدام فى باطنه. كونه يرتكن على فهم مغلوط للدين، ولىَ مُغرض لأعناق النصوص. فى مسعى منهم لتبرير الإرهاب، والتطرف العنيف، والتنكيل بالمسلمين وغيرهم من أتباع الشرائع الأخرى. غير مبالين بما يتسببون فيه من تشويه لصحيح الدين، وإساءة لسمعة الإسلام والمسلمين. وما يستتبعه ذلك الأذى من استعداء للآخر غير المسلم، حيال كل ما يمت للدين الحنيف بصلة.
منذ مطلع عشرينيات القرن المنصرم، ترعرعت النواة الأولى لخطاب التطرف الدينى الحديث، فى سياق البحث العبثى عن مجد ماضوى تليد، يتجلى فى استعادة دولة الخلافة. وهى المهمة التى يدعى «داعش» نضاله من أجلها حاليا. وما لم يخفه الإسلام السياسى، فى جميع مراحل تطوره، هو تحول تلك السردية إلى «مقدس»، لا يرتقى إليه الشك، ولا يأتيه الباطل، من بين يديه ولا من خلفه، من وجهة نظر وعى جمعى، يملك استعدادا تلقائيا للتسليم والتصديق. خصوصا فى ظل خفوت الوعى الفكرى الوطنى، وتفشى الفكر الدينى ــ الطائفى، ضيق الأفق. وتبرير العنف ضمن سياق مجابهة التدخل الخارجى المدمر فى بلاد المسلمين. وبمقارنة عابرة، يبدو خوارج اليوم، كمثل «داعش» و«القاعدة» ومن شابههم، أقل ورعا، وأشد ظلامية، وجهلا، وعنفا، من خوارج الماضى.
معرفيا، يبدو الحديث عن «ما بعد داعش»، غير منبت الصلة بالإشكالية التى تعانى منها غالبية الأدبيات السياسية، والاجتماعية، والفلسفية المعاصرة. تلك التى يروق لرهط من المثقفين تسميتها: «غواية المصطلح». كونها غدت فتنة اصطلاحية ومفاهيمية، تدعى، فى مجملها، تجاوزا للأساس الأول، نفيا لما سبق، أو قياما عليه. متعللة بمحاولة الاستجابة والتفاعل مع المستجدات. فربما تؤرخ خطابات «الما بعدية» لأطوار فكرية، يجوز نعتها بالتائهة، أو المشتتة، من التاريخ البشرى. والتى عجز خلالها العقل البشرى، عن توصيف مرحلته الفكرية الراهنة، بما يلائمها معرفيا. ومن ثم، راح يستدعى تراث الماضى، ليستعين به فى مواجهة التحديات الفكرية التى يترقبها فى قادم أيامه. من جهة أخرى، أتاحت تلك الخطابات للفكر الإنسانى حيزا رحبا من الإبداع المعرفى، خارج مركزية الحداثة الغربية؛ بما يعزز مفهوم «التعددية الثقافية»، الذى منح هامش العالم فرصا أفضل، كى يدلى بدلوه فى مجالات التفكير، والإبداع، والنقد.
يجوز الادعاء بأن المهرولين لاستحضار «ما بعد داعش»، قد وقعوا فى شرك معرفى يمكن تسميته «تهافت الما بعديات». فخلافا لمدلول اصطلاح «الما بعدية»، الذى يعد إفرازا فلسفيا لجيل لاحق يستنبطه من خبرة الجيل السابق له، بقصد توصيف حالة الصيرورة المعرفية بين حقبتيهما. يتهافت المتهافتون اليوم على التبشير بما بعد «داعش»؛ رغبة فى الهروب إلى الأمام، من أهوال أزمة، أخفقوا فى احتوائها. فى حين يتعذر على العالم، فعليا، عروج تلك الحقبة، قبل طى صفحة الكابوس الإرهابى الداعشى، الذى لا يلوح فى الأفق المنظور، أى مؤشر، يعتد به علميا، على اقتراب الخلاص من ربقته، على أى مقياس واقعى.
لعلنا لا نغالى، إذا ما زعمنا بأن التهافت فى طرح فكرة «ما بعد داعش»، لا يعدو كونه حيلة للتسامى الفكرى على واقع أمنى ومعرفى بالغ التعقيد؛ يكاد العقل البشرى يعجز عن سبر أغواره، أو فك طلاسمه. ومن ثم، لاذ بتجاوزه فكريا، وأمنيا، وتاريخيا، من خلال تعجل الانتقال إلى حقبة لاحقة، توسل بلوغها، للهروب من ظلمة التهديد الإرهابى، الذى لا يلبث أن يتوارى مرحليا، حتى يعاود الظهور مجددا. فلا يكاد المرء يتوهم أنه قهر التحدى، حتى يُصعق بانبعاثه. وكأن جذوره الضاربة فى الأعماق تنبت من جديد.
فليس «داعش» ظاهرة عسكرية، أو أمنية، أو سوسيولوجية فحسب. وإنما هو كيان إرهابى مُمأسس، وينطوى على فكر وعقيدة. وقد تسنى له استقطاب وتجنيد آلاف المريدين، من مختلف أصقاع المعمورة، بما يناهز المائة جنسية. ومن ثم، فهو قادر، شئنا أم أبينا، على البقاء، والتطور، ومواصلة التهديد، وبث المخاطر، لفترة زمنية، لا يعلم مداها إلاّ الله.
ربما لا يكون من الحكمة، اعتبار هزيمة تنظيم «داعش» الإرهابى عسكريا، وتفكيك دولة خلافته، المزعومة، فى سوريا والعراق، إشارات لأفوله واندثاره. ذلك أن دواعى وجوده، ومحفزات تطوره ما تزال قائمة. ومن غير المستبعد أن نواجه المزيد من أطوار التمدد، والانتشار، والتوحش، الداعشى. فى ظل ما تكابده بعض بلدان العالم العربى والإسلامى من هزات واضطربات تهوى بها فى غياهب الفشل. وما تعانيه الدولة الوطنية الافريقية الهشة فى إقليم الساحل والصحراء، من أزمات هيكلية وتحديات بنيوية. ولعل ما يشهده السودان، هذه الأيام من اقتتال بين قيادات منظومته العسكرية، يوشك أن يتحول إلى حرب أهلية عاتية، أو يتدحرج إلى مواجهات إقليمية عاصفة، ليس منا ببعيد.
واقعيا، تشى خبرة المجتمع الدولى المريرة، فى محاربة «داعش» وأخواتها من الكيانات الجهادية التكفيرية المتطرفة، بأن مواجهة الظاهرة الإرهابية عموما، والداعشية منها، بالأخص، إنما تتطلب مقاربة أكثر حداثة وأمضى فعالية. فحرى بجهود محاربة الإرهاب، مواكبة التطور المذهل، الذى اعترى ديناميكية تلك الكيانات على مستويات عدة؛ كمناهج التفكير، وأساليب التجنيد، وآليات الاستقطاب، والإمكانات التسليحية، والأداء العملياتى، والقدرات السيبرانية. وهو التطور الذى ساعدها على التعافى السريع من الضربات القاصمة، كما خولها إعادة الاصطفاف، وبناء هياكلها التنظيمية. الأمر الذى أبقى الإنسانية، أسيرة للزمن الداعشى، الذى عجزت عن تجاوزه، توطئة لولوج حقبة ما بعد «داعش».
التعليقات