دولة إبراهيم بُحلق - داليا شمس - بوابة الشروق
الثلاثاء 23 أبريل 2024 1:22 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

دولة إبراهيم بُحلق

نشر فى : الأحد 1 يونيو 2014 - 8:55 ص | آخر تحديث : الأحد 1 يونيو 2014 - 8:55 ص

أخلى الحر الشارع من المارة، ولكن ثمة عربة لم تكترث بالطقس واستمرت فى السير بين عمارات الأسمنت. صوت من بداخلها انطلق مدويا، عابرا بوق الميكرفون المثبت أعلى السيارة، ليحث الناخبين على التوجه لصناديق الاقتراع. لم يكن المشهد معتادا فى شوارع المدينة، خاصة أننا فى ركن هادئ من أحيائها الراقية.. إلا أن الضرورات تبيح المحظورات، وعدد الناخبين لم يصل إلى النسبة المرجوة.. حدث ذلك على هامش الانتخابات الرئاسية، وتناولته وسائل الإعلام والشبكات الاجتماعية تارة بالجد وتارة بالسخرية، فلم يكن من المتوقع أن تشهد طرقات العاصمة بعثا لفكرة منادى القرية، وقد ظننا أنه ضمن ملامح زمن قد انقضى. ارتسمت على وجهى ابتسامة عريضة وأنا أراقب حركات السيارة وأحاول فهم النداءات المتكررة، التى حمل بعضها توبيخا للجالسين فى برودة التكييف، كما لو أنها جريمة نكراء لا تليق بالمواطنين الشرفاء.

تذكرت على الفور إبراهيم بُحلق، المنادى ذا الصوت الجهورى، الذى كان يمر فى حوارى إحدى قرى الدلتا من سنوات بعيدة، عندما ذهبت لزيارة بعض الأقارب.. انطبع صوته فى ذاكرتى وهو يعلن عن موت أحد كبارات البلد ويدعو الأهالى إلى المشاركة فى مراسم العزاء والجنازة التى ستنطلق من أمام المسجد الكبير فى الميدان.. وكان بالطبع على الحاضر أن يعلم الغايب، كما هو الحال فى الظروف المشابهة، فالعزاء فرض واجب، كما الانتخابات فى هذه الأيام الكالحة. حدثونى وقتها أن إبراهيم بُحلق، شخصية عابرة للعصور.. فقد دأب وهو شاب أن يعمل «مسحراتى» خلال شهر رمضان، ومناديا فى الأيام العادية.. يذيع أخبار الوفاة أو ينادى على العيال الذين تاهوا من ذويهم فى المولد.. «عيل تايه يا ولاد الحلال» وما يليها من تفاصيل خاصة بالشكل أو الملابس والسن إلى ما غير ذلك. كان يسير على قدميه، ثم ركب الحنطور أو عربة يجرها حصانان، ثم تحولت هذه الأخيرة إلى سيارة ربع نقل عليها بوق حديدى ضاعف من قدراته الصوتية، وبالتالى من أهميته كإذاعة محلية متنقلة.. واكب تطور القرية ودخولها عهد الحمار الحديد (العجلة) دون أن يمد الله فى عمره ليصل إلى زمن ثورة المعلومات والإنترنت، وإلا كان قد طور من أدائه مع الاحتفاظ بعمته البيضاء الضخمة.

تخيلته للحظات وهو يجوب الشوارع ليعلن عن موت الدولة فى ظل التخبط والترنح الحاليين.. دولة ترجع جذورها لظهور مملكة سياسية واحدة كبرى وبداية العصور التاريخية على أرض النيل منذ حوالى خمسة آلاف وخمسمائة عام، وتشهد على ذلك مقابر الملوك المدفونين فى أبيدوس (مدينة بغرب البلينا ـ سوهاج)، الذين نجحوا تدريجيا فى تشكيل كيان سياسى واضح المعالم. هل يصدق أن يكون هذا مستوى الأداء فيها؟

ثم شطح ذهنى إلى صورة أخرى: إبراهيم بُحلق بعمته البيضاء ينادى «شعب تاه يا ولاد الحلال»، كما يفعل للبحث عن الأطفال المفقودين.. وأبواق الإعلام تردد من ورائه، وهو يصيح بعلو صوته ويتولى قيادة المسيرة.. إذ تحولت معظم كوادر الدولة فجأة إلى منادى القرية، إبراهيم بُحلق.

التعليقات